هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

640: قطار الشمال الحزين في طرابلس

قطار الشمال الحزين في طرابلس
السبت 27 آذار 2010
– 640 –

على مقربة من قلعة “برج السباع” في طرابلس، يرى المارة عجوزاً جالساً عند حافةٍ تحت شجرة، عيناه غائمتان الى محطة القطار المجاورة التي صدئت فيها القطارات، وهدمت الحرب أبنيتها، وغمر العشب البري موجوداتها فباتت مهملة ينخرها الخراب.
الى هذا الخراب ينظر “العمّ أبو يوسف” كل يوم وهو جالس تحت الشجرة قرب “برج السباع”، يَجرش في صمته ذكرياته.
يومها، ذات صباح أسود من 1948، قالوا لهم: “أهربوا. أتركوا بيوتكم أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، ثم تعودون”. ركبوا القطار من حيفا، وتوجّه بهم شمالاً. حين توقّف في محطة طرابلس، وترجّل منه الركاب يستريحون سُوَيعات قبل الإكمال به الى حلب، قرّر أبو يوسف (وكان يومها في الثامنة عشرة، ولم يكن “أبو يوسف” بعد) أن يبقى في طرابلس. حاول إخوته إقناعه بالإكمال معهم في القطار الى حلب ريثما يستتبّ الوضع (“المؤقت”!) في فلسطين، فرفض قائلاً لهم إن “طرابلس أقرب الى فلسطين من حلب، فلماذا الابتعاد الى هناك طالما أننا سنعود بعد أسبوعين أو ثلاثة”؟ ولدى إصراره أكملوا هم الى حلب، وبقي هو في طرابلس ينتظر “الأسبوعين أو الثلاثة على الأكثر” كي يعود الى بيته في فلسطين. وها هو لا يزال ينتظر. مرت حتى اليوم اثنتان وستون سنة، ولا يزال ينتظر نهاية “الأسبوعين أو الثلاثة على الأكثر”، ويعلل أحلامه بالعودة الى بيته من هنا، من محطة طرابلس.
وجاءت الحرب على لبنان، وتوقّفت محطة طرابلس، وبات على العم أبو يوسف أن ينتظر إشارتين: العودة الى فلسطين، وعودة قطار الشمال الحزين في طرابلس الى السكة الحديدية، كي يعود به الى حيفا مثلما أتى به منها قبل اثنتين وستين سنة.
أبو يوسف لا يعرف الكثير عن محطة طرابلس. ذات يوم أخبره موظف قديم فيها أن جمعية تأسست خصيصاً باسم “أصدقاء مَحطّة السكة الحديدية في طرابلس” وبدأت تنشط لإنقاذ المحطة في عمل تطوُّعيّ بدأ بالتوقيع على عريضة واسعة وأخذ يتسع الى ندوات ومعارض عن المحطة في پاريس وبيروت وطرابلس، في بادرة تُحرّك البصائر والضمائر لإنقاذ الذاكرة بأن تصنّف الدولة مَحطة طرابلس مَعْلَماً سياحياً، وموئلاً ثقافياً بين المباني الأثرية، شهادَةً على مرحلةٍ مباركةٍ من تاريخ لبنان الحديث. وأخبره أن في هذه المحطة قطارَين أَلْمانيّين مصنوعين سنة 1885، وأربعةً مصنوعة سنة 1901، وأنها كانت نِهاية خط “قطار الشرق السريع”، وأنها العام المقبل (2011) تَبلُغ مئةَ عامٍ على إنشائها سنة 1911، ونصفَ قرنٍ على ربطها سنة 1945 بِمحطة مار مخايل في بيروت، التي منها كانت تُكمل القطارات رابطةً طرابلس بِحيفا في فلسطين. وأخبره أن هذه المحطة كانت تصل طرابلس بپاريس فأوروپا، ولبنانَ بالدول العربية، وتنقل البضائع الى محطة حمص ومنها الى دول الخليج فالعراق فإيران، وكان الفضل في تمويل إنشائها لأهل طرابلس. وأخبره أن جامعيين وضعوا مشروع تخرُّجهم متحفاً يجمع المقطورات والقاطرات والمرْكَبات والموجودات، على أرض هذه المحطة التي كان لوجودها قربَ مرفإ طرابلس دورٌ اقتصاديٌّ حيوي ذو فرص عملٍ وفيرةٍ لأهل طرابلس وسكّانها، ما نَهض بالمدينة الى نُمُوٍّ وازدهار ديناميَّين. وأخبره أن المحطة كانت لا تَهدأ أربعاً وعشرين ساعةً في اليوم، وصفاراتُ قطاراتِها تندلع في سماء المدينة، وكان ركّابُها ينزلون أياماً وليالي مُحرّكين دورة اقتصادية فاعلة في المدينة.
هذه الأخيرة يذكرها أبو يوسف، لأنه سنة 1948 نزل في محطة طرابلس الى”ساعات استراحة” ما زالت حتى اليوم تتناسل “سنوات انتظار”. وفي طرابلس تزوّج وأَنجب، وفي طرابلس وجد عملاً أمضى فيه حياته وهو ينتظر. وكبر أولاده وتقاعد وهو ينتظر. واليوم، وهو على باب الثمانين، لا يجد (كي يعيش انتظاره) أهنأ من أن يأتي الى هذه الشجرة، عند قلعة “برج السباع”، يجلس ناظراً الى محطة طرابلس، ينتظر أن تعود المحطة الى الحياة من جديد، وأن يتحرّك فيها القطار من جديد فتدوّي صفارته في سماء طرابلس، وأن يصعد الى أول مقطورة فيه، سابقاً إخوته في الرجوع الى بيته، لأن “طرابلس أقرب من حلب للعودة الى فلسطين”.