هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

809: حتى ليُشـْـتـَهى العمرُ الثَّالث

الحلقة 809: حتى لَيُشْتَهَى العمرُ الثَّالث
الأحد 31 أيَّـار 2009
نانسي (فرنسا)

قبل أن أصل إلى نانسي، مطلع هذا الأسبوع، للمشارَكة في المهرجان الدولي الخامس عشر للغناء الكورالي المستضيفِ ثَماني عشرة جوقة كورالية من العالم، قرأْتُ عن الكورال الْمحليّة المولَجَة باستقبال (واستضافة) الكورال اللبنانية (“الفيحاء”) فألفيتُ جميع أعضائها فوق السبعين، ومرَّ ببالي كيف يُمكن أن ينسجم أعضاءُ فرقةٍ شابّة مع هؤلاء العجائز.
غير أن فكرتي تبدَّدت إلى العكس تماماً حين عاينتُ من أعضاء الكورال الفرنسية “أليغرو” استقبالاً حارّاً وَدُوداً، ونَخوةً لافتةً باستضافة أعضاء الكورال اللبنانية في بيوتهم وتقديم كل مساعدةٍ لهم وتسهيل.
وبعد الاحتفال الترحيبِيّ افتتحتْه رئيسةُ بلدية “لي سان كريستوف”، وهي في منتصف سبعيناتها، بكلمة عن لبنان السلام والحوار والتعددية الثقافية واللغوية تَحوَّل المكان قاعة للعشاء كانت رئيسةُ البلدية أول من خدم فيها اللبنانيين بتقديم الصحون إليهم والمياه والعصير، يعاونُها فريق من رجال البلدة وسيّداتها، وجميعُهم فوق السبعين، بحيوية ونخوة وترحاب وعافيةٍ شابة نشيطة تنسي علامات العمر على التجاعيد والشعر الأبيض.
وصباحَ اليوم التالي وقفوا على المسرح أمام قائد جوقتهم الشاب، وأخذوا يغنّون جميعاً، بِمن فيهم رئيسةُ البلدية ورئيسةُ الجوقة ومديرةُ بيت الضيافة، فانتفت بينهم المناصب والمسؤوليات وتساوَوا في الأداء الكورالي بِحماسةٍ وانضباطٍ وَدَعَة، لا تعيقهم السبعون وأكثر من سنواتهم، فتأمّلت كيف جمعتهم الموسيقى بصِباً جميلٍ فانتفت من بينهم ملامح الأعمار.
هذا الأمر أعادني إلى لبنان، حيث لا تروج هذه الظاهرة، بل غالباً تُصبح عندنا سنُّ التقاعد سنَّ الضجرِ والكسلِ وإضاعةِ الوقت والتدخينِ والأركيلة ولعبِ الورق والحديثِ في السياسة وطقطقة السبحات وهدرِ الوقت أمام شاشة التلفزيون، وتردادِ هذه العبارة الخانعة الانْهزامية الاستسلامية: “يَـلاَّ.., ما بقي من العمر أكتر ما مضى”.
وهذه النفسية الخُنوعية تؤثر على الجسد فيشيخ أكثر ويهرم ويتجعّد ويتكاسل وتتكاثر فيه عوارض المرض والأوجاع ومطالع النهاية غير السعيدة، كأن العمر الثالث شرفة يتثاءب عليها الناس في انتظار الموت.
وأعود إلى نانسي، فأجد حولي أبناء العمر الثالث يغنّون ويصفّقون ويرقُصون وينشطون في خدمة ضيوفهم، حتى لَيُشتهى العمر الثالث، فأَلْمح من بعيدٍ طيفَ عاشقَين اليوم في زهوة الحب، يتطلَّعان إلى العمر الثالث بتفاؤل الحياة وزخم الحب، فأُوقنُ ن ةةأنّ الحياة كلَّها لَحظةُ حبٍّ جميلةٌ تَمتدُّ على كلِّ العمر، فلا يعودُ الخريفُ باباً للشيخوخة، بل نافذةً مفتوحة دائماً على ربيع دائم.