هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

808: حين النقلُ العامُّ متعة الركاب

الحلقة 808 : حين النقلُ العامُّ متعةُ الركاب
الأربعاء 27 أيار 2009

قبل أيام نشرَت وكالة أسوشيتدپْـرس” خبراً عن افتتاح معرضٍ في مترو موسكو لِنسخٍ عن لوحاتٍ فنية من متحف سان بيترسبورغ، ومع الخبر صورةُ ركاب داخل مقطورة يتأملون نسخ اللوحات. وهذا الخبر يأخذ إلى مترو موسكو نفسِه، الذي يعود إلى 1930 ويبلغ طوله حتى اليوم 256 كلم (أي مرةً وربع المرة طول الساحل اللبناني)، له 138 محطة، في كلٍ منها أروقةٌ جميلةٌ فخمةٌ نظيفةٌ مرتبةٌ مزخرفةٌ مزينةٌ كأنها صالات قصور، لوفرة ما تَحويه من رخامٍ نفيسٍ وثريات ضخمة وأعمدة ساطعة وفسيفساء رائعة ومنحوتات وتماثيل تؤرخ محطاتٍ أساسيةً من تاريخ روسيا الوسيط والحديث، كتمثال الحرس الأحمر في ثورة أكتوبر 1917، وتمثال القائد ميخائيل كوتوزوڤ قاهر نابوليون في معركة 1812، وتمثال بطرس الأكبر في معركة پولتاڤا. وكان مترو موسكو العميق ملجأً آمناً لآلاف الموسكوبيين خلال القصف الجويّ في الحرب العالمية الثانية، لأنه عميق جداً تحت الأرض، لا أدراج فيه بل مصاعد كهربائية. وعاماً بعد عام تزداد محطاته المهندسة المزركشة الجميلة، فيمتدّ المترو إلى الضواحي البعيدة. وتلفت في المحطات ألوان تسعة لخطوط المترو التسعة، تسهيلاً لتَوَجُّه الركاب إلى محطتهم المقصودة، في قطارٍ تفصله عن القطار التالي دقيقة واحدة فقط، وفي الليل يزداد الوقت إلى دقيقة وربع الدقيقة.
الشاهد من هذه المقدمة أمران:
*) الأول أن يكون النقلُ العام متعة للركاب بمحطاته ووسائل نقله وانضباط وقته وتوقيتاته ودقّة الانطلاق والوصول، ونظافة محطات الانتظار وتزيينها وتزويدها بكل مرغّبٍ فني وثقافي،
*) والأمر الآخر جعلُ الثقافة في متناول الجميع فلا تبقى قصراً على النخبة المثقَّفة دون سائر الناس، كالركاب الذين، في قطارات مترو موسكو، أُتيحت لهم مشاهدة لوحاتٍ رائعة الفن والجمال قد لا تصحّ لهم مشاهدتُها أصليةً في متحف سان بيترسبورغ، فيتأملونها نُسخاً أمينةً يتمتعون بتقدير الفن فيها والفنانين راسميها.
حين تجعل الدولة النقل العام سائغاً في نظافته وترتيبه ودقة توقيته، وتجعل الثقافة في متناول جميع المواطنين، تكون قدّمت لهم وطناً للمستقبل، لأن الحاضر الذي لا يهيّئُ جيل الغد يغيب مع شمس الحاضر، والدولة التي لا تعنى بالثقافة العامة للجميع ولا ترغّب النقل العامّ للجميع، لا تبني وطناً للجميع فتبقى فيها دويلاتٌ ومزارع وعشائر وقبائل ذات محسوبيات لا رغبة لديها في بناء الوطن.
فمتى عندنا يصبح النقل العام متعةً ترغّب الجميع، والثقافةُ في متناول الجميع، في حالةٍ تُبهج العين والقلب، كما عينان جميلتان في مترو موسكو أمام روائع الفن الهندسي والإبداعي، فالتنقُّل عندها متعة، ونَهْلُ الثقافة متعة، تغنى بهما العينان، ويغنى بهما القلب ناهداً إلى مستقبل أفضل؟