هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

682: التدخين المفروض على الناس في الأماكن المقفلة

الحلقة 682: التدخين المفروض على الناس في الأماكن المقْفَلَة
الأربعاء 5 آذار 2008

كانت السهرةُ سائغة، هادئة، راقية: الداعُون إليها مثقَّفون أكاديميون، والموسيقى فيها خفيضة الصوت تُمْتِع ولا تُزعِج، والأحاديثُ على مستوى مُتَّزن من الحوار، وكنا إلى طاولةٍ من عشرة أشخاص، مستديرةٍ غيرِ واسعة، والصحونُ تتوالى عليها بالأطايب اللبنانية الشهية.
وكانت حَدّي إلى الطاولة سيدةٌ فرنسية دعاها إلى السهرة صديق لي وزوجته، جاءت تُمضي لديهما أسبوعين تُكمل خلالهما دراسةً اجتماعية ميدانية عن المرأة العاملة في لبنان، تكون جزءاً تطبيقياً من أطروحة دكتوراه تُعِدُّها في جامعة فرنسية كبرى.
فجأةً، سحب اثنان، مِمّن معنا إلى الطاولة، سيجارَين طويلين سميكين، وأخذا يتبادلان الحديث عنهما قبل إشعالِهما. تطلعت إليّ السيدة الفرنسية في استغراب استهجاني: “… وهل سيدخّنان هنا”؟ قلت لها: “ننتظر، ربما هما للغواية فقط”. وكان جوابي ساذجاً أمام عينيها المشدوهتَين المتمتمتَين كلاماً لم تُفْصِحْ عنه جهاراً، هي التي أصدرت دولتُها الفرنسية قراراً يمنع التدخين – منذ اليوم الأول من هذا العام 2008 – في جميع الأماكن المقفلة.
بعد قليلٍ، أشعل الاثنان أمامنا السيجارين، فالتفتت إليّ السيدةُ الفرنسية التي لا تفهم الحوار باللبنانية وسألتْني: “هل استأْذَنَا من الحاضرين إلى الطاولة معنا إن كانا يستطيعان التدخين”؟ قلتُ: “لا، هذه عادة غير دارجةٍ عندنا”. فعادت تسأل: “ألن يمرَّ البوليس كي يراقبَ إذا كان أحدٌ يدخّن؟”، قلتُ: “لا، هذه عادة غير دارجةٍ عندنا”، ثم سألَت:”ألَم تُحظِّر عندكم الدولة التدخينَ في الأماكن المقفلة؟”، قلتُ: “لا، هذه عادة غير دارجةٍ عندنا”، قالت: “والناس الذين في الأماكن المقفلة كهذا، ألا يَمنعون المدخّنين من التدخين”؟، قلتُ: “لا، هذه عادة غير دارجةٍ عندنا”، قالت: “والناس الذين لا يدخّنون، ألا يعترضون على مَن يدخنون”؟، قلتُ: “لا، هذه عادة غير دارجةٍ عندنا”، قالت: “والذين لا يدخِّنون، ألا يتضايقون مِمّن يدخِّنون؟”، قلتُ: “لا، هذه عادة غير دارجةٍ عندنا”. قالت: “والذين لا يدخِّنون، كيف يتصرَّفون مع مَن يدخِّنون”؟ قلتُ: “هؤلاء فئاتٌ ثلاث: أولى مَن يَمتعضون ويَسكُتون ويَشْتُمُون في سرِّهم مَن يدخِّنون، وثانية مَن يعترضون فيعتبرُهم المدخِّنون وقحين ويَمضون في تدخينهم، وثالثة مَن هم مثْلي يُفْصِحون عن غضبهم ولو أخذَهم الأمر إلى التعبير بغضبٍ عن الامتعاض شَفَاهةً أو كتابة”. قالت: “وكيف ينتهي الأمر”؟ قلتُ: “إما أَنسحبُ عن الطاولة، كما سأفعل الآن، أو يُطفئُ المدخِّنون سجائرهم أو سيجاراتهم اعتذاراً، أو يَنسحبون كي يُكْملوا تدخينهم في ناحية أُخرى”. قالت: “وفي هذه الأثناء، يكون الجوّ بات موبوءاً بالدخان في فضاء القاعة، وثيابُ الناس مشبعةً بقرف النيكوتين وتذهب صباح اليوم التالي فوراً إلى المصبغة، ولا ينامون قبل أخذ حَمّامهم مرَّتين متتاليتين لغسل قرف النيكوتين عن شَعرهم وجِلْدِهم، ويكونون أَكلوا من صُحونٍ تغلغلَ فيها لهاثُ المدخِّنين ونيكوتينُهم فيتناولون سُمَّ التدخين من الخبز والصحون وكؤوس الشراب”.
وحين هَممتُ وقوفاً لأنسحب، نفخَ أحد المدخِّنَيْن شُحنةَ دخانٍ من خيشومه ونِيعِهِ ومنخاره، وبادرني بالقول: “عفواً أستاذ، أَعتذر، هل تشاركُنا التدخين بسيجار؟”.