هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

636: من موسيقى الكلمات إلى موسيقى الصورة

من موسيقى الكلمات الى موسيقى الصورة
السبت 20 شباط 2010
– 636 –

في حوار مع المخرجة النيوزيلندية جين كامپيون (عدد هذا الشهر من مجلة “سينما”) حول فيلمها الجديد “النجمة المُشِعَّة”(Bright Star) الذي يستقطب آلاف الرواد الى الصالات التي تعرضه حالياً في مدن وعواصم عالمية عدة، قالت كامپيون: “صوّرتُ هذا الفيلم كأنني أكتب قصيدة”. ويَصدُق هذا الجواب مرتين: لأن كامپيون هي التي كتبت سيناريو الفيلم، ولأن هذا الفيلم البيوغرافي يصوّر قصّة الحب العاصف بين الشاعر الإنكليزي الرومانسي جون كيتس (1795-1821) وحبيبته فاني براون.
وكان كيتس عاش في آخر ثلاث سنوات من حياته حباً كبيراً مع فاني، توفي بعدها تاركاً لها رسائل رقيقة، وقصائد دافئة (بينها “النجمة المشعّة”) هي بين الأرقّ والأجمل في شعر القرن التاسع عشر، وضعَته (رغم صغر سنّه وضآلة كتاباته نسبياً) في مستوى شعري عالٍ مع شيلي واللورد بايرون.
وفي سياق الحوار تؤكد كامپيون: “الشاعر أعطاني موسيقى الكلمات، وأنا أضفتُ إليها موسيقى الصورة”. وتوسّعَت: “كان كيتس شريكي في كتابة السيناريو. استمددتُ فيلمي من نصوص قصائده ورسائله الى فاني، وبنيتُ عليها قصيدةً سينمائية حاولتُ إدخال الْمُشاهد فيها بِجميع حواسه الى عالم كيتس من روح كتاباته لا من السرد البيوغرافي لحياته وقصة حبه مع فاني. خفَّفتُ اشتغالي على حركة الكاميرا لأزيد المدى لمشاعر مُمثّلين تركتُ لهم حرية التعبير عن شعورهم الداخلي بالحوار الدافئ بين الشاعر وحبيبته التي كان عندي حرص كبير على إبراز مشاعرها، وفضولي في اكتشاف هذه المرأة التي أَلْهمَت شاعراً كلّ هذا الشعر الحامل حباً عاصفاً غير عاديّ”.
هذا الكلام يؤدّي بنا الى أمر آخر: قوة الصورة في ترجمة الشعر، بعدما كان عرش الشعر قصراً على المقروء والمسموع. وهذه مقاربة جديدة للشعر عبر الكاميرا، أن تفتح كامپيون بفيلمها آفاقاً جديدة، بانيةً جسوراً بين عالَمين افتراضيين: عالَم الكلمة وعالَم الصورة. وهذا بُعْدٌ للشعر جديدٌ: قدرة الكلمة الشعرية على إيحاء التعبير أمام قدرة الصورة على رئاية تقاسيم هذا التعبير. إنها الكلمات والصوَر في عالم افتراضي يُعيد نسج الواقع.
كيف تنتقل الكلمة من صفحة الكتاب الى صفحة الشاشة؟ وكيف الشاشة الافتراضية تنقل الكلمة من الشعر الى الْمَشاعر عبر المرئي من التعبير؟ هنا قوة الشعر في إسداء مادته الى الشاشة، وهو أصعب من إسدائه الى الصوت (صوت شاعره أو صوت ملْقيه على منبر أو مسرح أو خلف ميكروفون إذاعة أو ستوديو أو كتاب صوتي).
وفي مدى افتراضي آخر: هل كلّ قصيدة (أو رسالة حب) قابلةٌ للترجمة بالصورة؟ هل الصورة لغةٌ جديدة للقصيدة (كما نقلُها الى لغة أُخرى غيرِ أصليّتها)؟ وهل الصورة السينمائية فعلاً “ترجمة” الى كتابة جديدة في لغة جديدة أم هي نقلٌ الى لغة اللغات التي لا تحتاج الى ترجمة لأن الْمُشاهد يتلقّاها أيّاً تكن لغته الخاصة؟ ألا تكون الصورة، هنا، لغات اللغة التي “يقرأُها” كل ابن لغة؟
هنا أهميةُ إدخال الشعر في تكنولوجيا العصر كي لا يظلّ قصراً على “عتيق” تقديمه في شكل جامد تقليدي يُبقيه “عتيقاً” لا يَدخل عصرَ صاحبه. ومن هنا محاولات إخراج الأبيات من بيوتها الى “القصيدة المتحركة” مرة، الى “الكتاب الصوتي” مرة، والى السينما مرةً كما في فيلم “النجمة المشعّة” المرشَّح، في قوة، لجائزة الأوسكار هذا العام.
هوذا كيتس الشاعر العاشق يَخلُدُ مرتين: بكتاباته، واليوم بهذا الفيلم البيوغرافي المستوحى من قصيدته “النجمة المشعة”.
وهوذا الإبداع الإنساني الخلاّق يفتح آفاق الالتقاء: السينما لغة تعبير، والشعر شكل تعبير. والإبداع يتيح الالتقاء دائماً، ولو بين لغةٍ وشكلٍ متباينَين من أشكال التعبير. وهذا هو معيار المبدعين.