هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

652: تقاعَدَ الإنكليز… فبدأوا حياتهم

الحلقة 652: تَقَاعَدَ الإنكليز… فَبَدَأُوا حياتهم
(الأحد 18 تشرين الثاني 2007)

بين الجوقات التي شاركَت في مهرجان وارصُو الدولي للغناء الكورالي (الذي نالت فيه “كورال الفيحاء” اللبنانية الجائزة الأُولى على 24 جوقة من مختلف دول الغرب) كانت جوقة “وادي نهر التيمز” الإنكليزية التي نالت الجائزة الثالثة في المهرجان.
وعدا ما لفتَت به هذه الجوقة من احترافية عالية في الأداء الجماعي، لفتت بأن جميعَ أعضائها رجالٌ من العمر الثالث، وقائدَتَها امرأةٌ من العمر نفسه. بعد إعلان النتائج وفوز لبنان بالمرتبة الأولى دولياً، وحين تقدّم بعض أعضاء الجوقة الإنكليزية يهنّئون قائد الجوقة اللبنانية باركيف تاسلاكيان وأعضاءَ جوقته اللبنانيين، سألتُ عدداً من الإنكليز عن هذه الظاهرة في جوقتهم فقال لي أحدُهم: “جميعُنا في هذه الجوقة من المتقاعدين. أنهيتُ خدمتي العسكرية وخدمتي المهنية وتقاعدْتُ. ماذا أفعل كي لا تَهُدَّني الشيخوخة؟ انضويتُ في هذه الجوقة الكورالية”. وقال لي آخر: “بنينا في هذه الجوقة عائلة جديدة، بعدما أُحلنا جميعاً إلى التقاعد، وصرنا متآلفين في لقاءات يومية بفضل هذه الجوقة”. وقال لي ثالث: “عشتُ عمراً جديداً بعد سنّ التقاعد، بفضل هذه الجوقة. وها أنا استرجعتُ شبابي الذّهني. ألتقي زملائي في الجوقة باستمرار. نتمرّن. نغني في أمسيات. نسافر معاً كما إلى هنا في وارصُو. صرنا عائلة واحدة متماسكة متحابّة، والتقينا جميعاً على بداية عمرنا الجديد بعد سن التقاعد”.
أما قائدة الكورال (رِِيانون أُوِنْز هول) فقالت لي: “أنا اليوم في الثانية والسبعين. كُلّي حيوية. أدرّب الجوقة كلَّ يوم ثلاث ساعات. نحيي أمسيات كورالية في إنكلترا. سافرنا إلى الولايات المتحدة والمانيا وهولندا وإيرلندا وتشيكيا، وها نحن اليوم في وارصُو، وفي روزنامتنا مواعيدُ عديدةٌ لأسفار مقبلة. لو لم أكن كذلك، لوقعتُ تحت شيخوخة الثانية والسبعين”.
الى كل هذا، كان لافتاً غناؤُهم المرِح بتعابيرِ وجوهٍ طفولية، وطعقةِ أصابع شبابية، وهزِّ خصورٍ ولاّدية، وحركاتِ يدين صبيانية ترافق الأغنيات الكوميدية، وبسماتِ فرحٍ مشرقة مَحَت عن وجوههم خرائط التجاعيد. وحين أعلن المذيع فوزَهم بالجائزة الثالثة صرخوا فرحاً كالأطفال يفاجئهم خبر سارّ، وراحوا يتعانقون كالأولاد في زهوة عيد.
الشاهد من هذه الظاهرة، أنهم شعب حي يستحقّ أن يكون من حيوية العالم الأول، عكسَ أكثر المسنين عندنا: يتقاعدون فيشيخون في أسابيع، ويُمضون تقاعدهم وشيخوختهم في التدخين ولعب الورق وتضييع الوقت والهمهمةِ أن “ما بقي من العمر أكثر مما مضى”، كأنهم استقالوا من الحياة وقَعدوا في إحباطهم ينتظرون الموت في زوايا بيوتهم وقعْر ضجرهم العميق.
مأساتُنا في هذا الشرق أن التقاعُد نهاية تموت إليها خلايا المتقاعدين ضجراً وكسلاً وتدخيناً، بينما هو في الغرب بدايةُ حياةٍ جديدةٍ لنمط جديد يعرف أن يخلق خلايا نسيجه الحيّ، كهؤلاء الشيوخ الشباب أعضاء تلك الجوقة الإنكليزية.
كنتُ معكم من العاصمة الپُولونية وارصُو. إليكم بيروت.