هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

632: من وداع بافاروتي إلى استقبال الخلود

الحلقة 632: من وداع بافاروتي إلى استقبال الخلود
(الأحد 9 أيلول 2007)

حزينةً كانت أمس مدينة مودينا الإيطالية وهي تودّع ابنها لوتشيانو بافاروتي الذي ولد فيها، وظلَّ بيته فيها رغم جميع أسفاره العالمية، وأمضى أشهره الأخيرة فيها، وطلب أن يغمض فيها عينيه إلى الأبد.
غير أنها، مودينا، تدرك أنْ وراء حزنها أمس، علامةٌ لها انحفرت على خارطة الإبداع، ستستقطب الناس إليها كي يجيئوا يزورون ضريح الذي وسَم العصر بصوته، ورسم في فضائها وفضاء إيطاليا فالعالم نجماً شع سبعين عاماً وغاب لكنه لن ينطفئ.
وإيطاليا، أمُّ الأوبرا، كانت وفيةً لولدها الذي هيَّأَ لها وفاءه منذ المطالع. فرئيس حكومتها رومانو برودي هو الذي نعى بافاروتي إلى العالم. ورئيس حكومتها السابق سيلفيو برلوسكوني قال إن “بافاروتي كان سفير موسيقانا وثقافتنا وتراثنا إلى العالم”، وخوسيه مانويل باروزو (رئيس المفوضية الأوروبية) قال إن “هذا يوم حزين جداً لفن الأوبرا في أوروبا”، وفرنكو زيفيريلي قال “كانت لبافاروتي شخصيتان عبقريتان: النجم العالمي الفذ، والرجل الشديد التواضع”.
ورفيقاه في الثلاثي الأوبرالي العالمي أنصفاه، فقال بلاسيدو دومنغو: “كنت دوماً أقدِّر المجد الإلهي في صوته”، وخوسيه كاريراس قال: “بافاروتي تينور فريد من نوعه كنا جميعُنا معجبين به”.
الشاهد من هذه الاستشهادات: تكريم الدول الراقية لكبارها يوم يغيبون، فالصحف والمجلات الإيطالية والأوروبية ملأت بالمقالات عنه صفحاتها الرئيسة، والموسيقى الكلاسيكية عمَّت شاشات أوروبا، لا حداداً على غياب سياسي (كما يحصل عندنا فلا يعلَن الحداد الرسمي إلاّ على غياب سياسي)، بل حداداً على بافاروتي الخالد، وإيطاليا بدت كلُّها حزينةً لغياب نجمها العالمي الذي أعاد فن الأوبرا، الإيطاليَّ أساساً، إلى مجده الإيطالي، وانحنى لغيابه كبارُ إيطاليا الرسميون.
الشاهد الآخر والأهمّ: تعرف الدول الحضارية الكبرى أن سقوطَ نجم كبير من فضائها عتمةٌ تظلِّل أرضها، فلا خيار لها إلا تكريمُه على ما يليق، كي يبقى الإبداع فيها بخير، وهو الذي ينشر شعاعها إلى العالم، هو: الإبداع، لا تصاريح سياسييها ولا تشاتُم زعمائها على شاشات التلفزيونات. هو: الإبداع الذي ينقل صورة الوطن إلى العالم بأبهى مستوياتها. هو: الإبداع. فلنفهم، هنا في لبنان وفي كل بلد من هذا المحيط بنا، أنْ وحده الإبداعُ يبقى حبة المرجان في قلب الصدفة، وما عداه: زبد زائلٌ، وخطبٌ رنانة، وتصاريح استفزازيةٌ تثير الغرائز مرحلياً لكنها تنتهي مجردَ أصواتِ عابرين في كلام عابر.