هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

624: لبنان والفينيقيون على فوهة الأطلسي

الحلقة 624: لبنان والفينيقيون على فوهة الأطلسي
(الأحد 12 آب 2007)

حين علم الأصدقاء في “أصيلة” بنيّتي زيارةَ طنجة، نصحوني أن أزور مغارة هرقل على الأطلسي. وهكذا كان. وما إن ترجّلتُ من السيارة عند مدخل المغارة حتى بادرني رجل متوسطُ القامة والسن: “أنا المهدي، مرشد سياحي، أتريدني أرافقُك على جولة في المغارة”؟ ولم ينتظر جوابي حتى كان لصيقاً بخطواتي ونحن ندخل: فجواتٌ عالية ووسيطة، في حجر رملي حتَّتَتْهُ قرون الزمان العتيق، يعصف فيها هدير أمواج الأطلسي تتكسر عند أقدام المغارة. السياح داخلَها كثيرون، يلتقطون صوَراً لها ويركّزون على مدخلها البحري الذي، حسب المهدي، شكلُه مقصودةٌ فُتحتُه أن يكون خارطة أفريقيا من أقصى شمالها إلى أسفل الجنوب.
ولم ينتظرني المهدي أسأله عن هذه الدوائر فوقنا في سقوف المغارة، لأنه اصطحبني إلى إحدى فجواتها، أزاح بعض المتجمعين فيها، ليوصلني إلى حجر رُحىً متوسطِ الدائرة، قال إنه “مقصوب من السقوف، ومئات الدوائر هذه التي تراها فوقك هي الفجوات الباقية بعد نحت حجرِ الرحى المستدير وعزلِه عن الصخرة الأُمّ”. وبِما أنه مرشد سياحي وشغْلتُه كثرة الشرح وعدم التوقُّف عن الكلام، لم ينتظرني حتى أسأله عن أولئك المذهلي الصنعة الذين نحتوا حجارة الرُّحى من السقوف بهذه البراعة، بل بادرني مُكملاً: “إنهم الفينيقيون يا أستاذ. الفينيقيون البارعون في شؤون الملاحة وغزو البحار. مروا من هنا، من شواطئنا، في رحلاتهم إلى أفريقيا، استقر بعضهم شمالاً حيث أسست ملكتهم إليسا مدينة قرطاجة، وأكمل البعض الآخر إلى هنا، إلى شواطئنا، ورسوا هنا في طنجة، بوابة عبورهم بين فينيقيا وأفريقيا. بارعون يا أستاذ، بارعون. نحن ورثنا عن أجدادنا، وأجدادُنا عن أجدادهم، أن هذه المغارة هنا عندنا كانت مستقراً لهم تجارياً يزاوِلون فيها بيع حجارة الرحى، وكان فيها سكناهم لوقت طويل، ويؤكد الخبراء والمؤرخون أنْ لم يغيّر في معالمها أحدٌ منذ غادرها الفينيقيون. فهذه، إذاً، أمامكَ وحولكَ، معالم الفينيقيين كما تركوها منذ آلاف السنين”. وشرح لي المهدي أُموراً كثيرةً أخرى عن براعة الفينيقيين في تقسيم هذه المغارة إلى ردهات كبرى وصغرى ووسيطة، طالما كانت لديهم الأدوات الحادة، ولو البدائية، لتقصيب الصخور وتشكيلها، هم الذين، كما قال المهدي، “روّضوا البحر والصخر، وكانوا أسياد التاريخ القديم”.
وحين قلت له إنهم، إلى البحر والصخر، روّضوا الخشب لسفنهم الضخمة من خشب بلادهم بادرني المهدي بقوله: “عندنا هنا في طنجة، فندق “المِنْزه” العريق المبني سنة 1930، والذي ينْزل فيه رؤساء الدول حين يزورون مدينتنا. وأفخم قاعة فيه، يتباهى مسؤولو الفندق أنها لا تزال على طرازها، منذ بناء الفندق، وسقفها الجميل النادر، هو من خشب الأرز في لبنان”.
لو ان المهدي علمَ سلفاً بأنني لبناني، لَكُنتُ شككتُ بمغالاته في “اختراع” المعلومات كي يرضيني. لكننا كنا نتكلم بالفرنسية كي لا يفوتَني شيءٌ من شرحه بعامية أمازيغية مغربية لا أفهمها.
وفيما أنا أغادر المغارة، مددتُ يدي إلى المهدي كي أناولَه بعض النقود إكرامية. كان يهُمّ بتناوُلها شاكراً حين قلتُ له: “شكراً يا سي المهدي على معلوماتك القيّمة عن بلادي”. امتقع وجهه لِجوابي، فأردفتُ: “نعم يا سي مهدي: كنتَ تتحدَّثُ عن أجدادي الفينيقيين، وعن خشب الأرز في وطني لبنان”.
عندها سحب يدَه عن أخذ النقود وصافح يدي قائلاً: “إكراميتي أنني، في بلادي، عرّفتُكَ عن أمور في بلادك. السلام عليك، ورحمة الله وبركاته”.
كنتم معي في طنجة من المغرب. إليكم بيروت.