هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

588: … واختنق الطفل من دخان أبيه

الحلقة 588: … واختنق الطفل من دخان أبيه
(الأربعاء 4 نيسان 2007)

كان المطعم مكتظاً بالروّاد والضجيج وحرتقة الصحون والملاعق والضحكات العالية، وكان الطفل يبكي.
مضى وقتٌ غير قليلٍ على هذه الحالة، وبقي الطفل يبكي.
التفتُّ ورائي، إلى الطاولة المحاذية، لأرى الطفل المتواصل البكاء، على ذراعَي والدته، وحوله إلى الطاولة والده يُخاطبه مدلِّلاً، في فمه سيجارة، وفي يده مسبحة يطقطق بها غير فاهم لماذا يبكي طفله، ومعه إلى الطاولة شخص ثانٍ في فمه سيجار، وشخص ثالث يدخِّن الأركيلة معتزاً متباهياً منشرحاً وينفث الدخان من فمه ومنخريه وأذنيه وجيوب قميصه فيما هو يعلك الطعام بين فكّيه وفمه مفتوح، والطفل يبكي ويبكي.
ثم اقترح السيد الوالد، والسيجارة في فمه طبعاً، أن تقوم زوجته بالطفل فتمشي به لعلّ بكاءه يخف. قامت الوالدة المسكينة تهز بطفلها على ذراعيها وتمشي به بين طاولات المطعم التي يتصاعد منها وحولها وبينها دخان السجائر والسيجار والأركيلة، والطفل يبكي ويبكي. ثم عادت إلى الطاولة يائسةً، وعلى ذراعيها الطفل محمر الوجه من كثرة البكاء، فأبى والده الحنون إلاّ أن يَحمله مهدهداً إياه إلى صدره، فغرق وجه الطفل في صدر أبيه وازداد بكاءً، والوالد الحنون مستغربٌ هذا البكاء، غير مدركٍ أن ثيابه مشْبَعَةٌ بالنيكوتين وغبَّت دخان السجائر والسيجار والأركيلة، والطفل غارق وجهه في صدر أبيه يتنشق الدخان من ثياب أبيه ويزداد بكاءً.
وزاد الاستغراب إلى الطاولة من بكاء الطفل، والمدخّنون غيرُ مدركين أنهم يَخنقون هذا الطفل بالدخان الذي يخرج من أفواههم. فالمدخن عادةً يسبطرّ في سيجارته وسيجاره وأركيلته، ويحلنشش ويقعنسس، أنانياً فظاً لا يسأل مَن حوله إن كانوا يتضايقون من الدخان، ولا يستأذن أبداً قبل أن يفتحَ علبة الدخان ويسحبَ منها سيجارة ويشعلَها وينفثَ دخانَها في الهواء فوقه، أو في نص دين صحون الطعام أمامه على الطاولة، بل يتمتّع بتدخينه من دون اعتبار لانزعاج الآخرين حوله، ويعتبر أنّ مَن يتضايق من الدخان فلْيبتعد عن المدخنين، عوض التهذيب البديهي أن يبتعدَ المدخن عن غير المدخنين، أو على الأقل أن يستأذن ممن حوله إن كان يستطيع أن يدخّن بينهم من دون إزعاجهم بالدخان الذي سينفثه من فمه المطيب بالنيكوتين والرائحة الكريهة ومنظر اصفرار أصابعه وتحت أظافره من قرف النيكوتين، أو تنفيخه دخان الأركيلة من فمه ومنخريه وأذنيه وشعره.
بعدَ وقت لم أعد أسمع خلاله بكاء الصبي، خرجنا من المطعم وثيابنا تنضح بالدخان ولو اننا لا ندخّن، فرأيتُ الطفل الضحية على ذراعي أمه حدَّ أبيه في السيارة، والسيد الوالد وراء مقود سيارته، في فمه سيجارة جديدة، وفي يده مسبحته يطقطق بها وهو يقود، وزجاج السيارة مقفَلٌ، والطفل يكاد يختنق من شدّة البكاء.