هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

579: الهجرة من الدولة لا من الوطن

الحلقة 579: الهِجرة من الدولة لا من الوطن
(الأحد 4 آذار 2007)

منذ حلقات في هذا البرنامج وأنا أؤكد على التمييز بين الدولة والوطن، وضرورةِ الفصل بينهما إكراماً للوطن وإنصافاً للدولة. من هذا التمييز مثلاً: عدم القول “لبنان وطن صغير” بل القول “لبنان دولة صغيرة” لأن الدولة هي السلطة الحاكمة على مساحة الوطن، ولبنان دولة صغيرة على مساحة صغيرة، وهذا صحيح ولا يضير لبنان ذلك، أما لبنان الوطن فممتدٌّ إلى بقاع الأرض جميعاً لا تغيب عن مساحاتها الشمس.
من هذا المنطلق، ضَروريٌ توضيحٌ آخَر لا بد منه اليوم: الهِجرة. هذا الزحف خارج الوطن إلى أوطان الأخرين، هو هِجرة من الدولة لا من الوطن. لأن الذي يسبّب هذه الهِجرة منذ سنوات قريبة وبعيدة، وحتى منذ مطالع الهِجرة اللبنانية في القرن التاسع عشر، هو سبب واحد: تقصير الدولة عن حماية المواطن وتأمين استقراره الراهن ومستقبله الآتي، بدليل أن اللبنانيين كانوا ولا يزالون يغادرون لبنان إلى بلدانٍ أولُ ما يَنشدون فيها: وجود الدولة الحامية الحاضنة العادلة الآمنة المستقرة الضامنةِ الحاضر والمستقبل.
واليوم أيضاً: هِجرة اللبنانيين الموزعة على البلدان الأقرب (دول الخليج) والبلدان الأبعد (أوروبا) والبلدان البعيدة (أميركا وأستراليا) هي هِجرةٌ بحثاً عن الاستقرار في دول عنوانها الاستقرار، لأن ما هجّرهم من لبنان هو عدم الاستقرار الذي قلّص فرص العمل، وهما العاملان الأساسيان اللذان لم توفِّرْهُما دولة لبنان.
وفي جميع الحالات، وأنّى يكن توجُّه اللبنانيين في هجرتهم، قريبِها أو وسيطِها أو بعيدِها، فهُم هاجروا من الدولة وتقصيرها، ولم يهاجروا من الوطن، أي من المطارح والأهل والأصدقاء وكل الذكريات. وتالياً: ما إن تنتفي أسباب هجرتهم من الدولة، أي ما إن يستعيد لبنان دولتَه الحاسمة الحازمة ذاتَ الهيبةِ والتطلعِ إلى إيجادها العاملين الرئيسين: فرص عمل والاستقرار (الاستقرار الأمني والاقتصادي والمالي)، حتى يعود إلى الوطن مَن هاجروا من الدولة.
وعودة الدولة إلى لبنان لن تكون من الخارج بل من الداخل. عودتها لن تكون هدية من الخارج بل هوية من الداخل. الدولة لن تنزل علينا بالمظلة من فوق، بل ستطلع علينا من تحت، من القاعدة، من الإرادة الشعبية، من قلب الشعب، لنتشاركَ جميعاً في بنائها وإعادة تحصينها والحفاظ عليها. فالدولة اللبنانية، منذ أيام الاستقلال، كانت امتيازات خاصة ولم تكن حقاً عاماً. كانت محاصصاتٍ إقطاعيةً وعائلية ومذهبية وطائفية ومناطقية، شجَّعت الزبائنيات السياسية ولم تشجّع إشراك الشعب في بناء الدولة، فظلّ الشعب يشعر أنه في جهة، والدولة هناك في الجهة الأخرى، وتالياً يتصرّف كأن الدولة لا تعنيه، أو كأنها خصمٌ له، لذا لم يكن يترك فرصة حتى يغدر بها أو يتصرف كأنها دولة بلد آخر ولا تعنيه.
من هنا أن الهِجرة الداخلية من الدولة أخطرُ من الهِجرة الخارجية عنها، وتالياً، حين تعود الدولة إلى لبنان، يعود إليها المواطنون في لبنان، ويعود إليها مَن هاجروا منها لا من الوطن، وعندئذ يتصالح الوطن مع الدولة، فيعود لبنان إلى لبنان، ويرجع إلى دوره الريادي: لؤلؤة فريدة على جبين هذا الشرق.