هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

613: الحلوة باريس؟ متى الحلوة بيروت؟

الحلوة باريس؟ متى الحلوة بيروت؟
السبت 5 أيلول 2009
– 613 –
من أبرز الدلالات وأعمقها في تاريخ الآداب والفنون: علاقةُ المبدع بالمدينة. وكثيرون هم شعراءُ وكتّابٌ ورسامون ونَحاتون ومبدعون ارتبط اسمهم بمدينتهم أو بمدينة عاشوا فيها، وارتبط اسمُها باسمهم في تاريخهم وتاريخها. ذلك أنّ للمكان هيبتَه وحضورَه وبَصْمَتَه وذاكرته في كتابة التاريخ وأعلامه الخالدين.
الكتابُ الفخمُ الذي أصدرَتْهُ “دار فلاماريون” عن معرض “جاك پريڤير: الحلوة باريس”، يعكس المستوى الحضاري اللائق الذي تبلُغُه مدينةٌ مبادَلَةَ وفاءٍ لشاعر عاش فيها وغنَّاها في كتاباته فارتبط شِعرُه بها وارتبطَت هي بأصداء شِعره.
تلك حال باريس مع شاعرها جاك پريڤير (1900-1977) الذي جاء بجديدٍ في الشعر الفرنسي حين طوّع اللغة لسورياليةٍ بدأت مع “البروتونيين” ثم انفصلَت عنهم الى لغةٍ خاصةٍ به جسّدها (شكلاً ومضموناً) في قصائده وسيناريواته وحواراته السينمائية ما جعل قصائده تطير بشُهرة تنقّلت بين القرّاء والسامعين ومغنّين نقلوا قصائده الى أغنيات شعبية شاعت.
كرّمته باريس في معرض لائق أعدّته الحفيدةُ أوجيني باشلو پريڤير وريثة موادّ الشاعر (مَخطوطات، أغراض، رسائل، صُوَر، وثائق) ومالكة حقوق الملكية الفكرية والأدبية لآثار جدّها الذي ترك إِرْثاً شعرياً وأدبياً ومسرحياً وسينمائياً وصحافياً لم يكن معروفاً كلُّه حتى كشَفَتْهُ حفيدتُه في ذاك المعرض الكبير أقامتْه بلدية باريس في قاعاتها، واستقطب آلافَ روادٍ جاؤوا من فرنسا وخارجها للوقوف على آثار هذا الشاعر الكبير.
تَميَّز المعرض بإبراز العلاقة الوُثقى بين الشاعر والمدينة، منذ طفولته فيها حول حديقة اللوكسمبور الى نشوب تِمثاله فيها (بعد غيابه) وسط ساحة سان جيرمان دي پري، مروراً بكل ذكرياته وصداقاته وعلاقاته وشخصيته المعروفة (القبّعة وسيجارة لا تغادر شفتيه). وكان لافتاً في المعرض تنسيق آثار پريڤير الفريدة من قصائد ونصوص ورسائل لا تزال، بعد ثلاثين عاماً على غيابه، مَحطَّ اهتمام النقَّاد والدارسين والمتابعين، لِما فيها من طرافةٍ وعمقٍ وبَصْمَةٍ دامغةٍ لا تُمحى في تاريخ باريس.
ولَفَتَ في المعرض حَيِّزٌ خاص لتلامذة المدارس فيه أسئلةٌ عن سيرة الشاعر وأعماله، مَن يُجيب عنها ينال جائزة من بلدية باريس، وذلك تشجيعاً للجيل الجديد على اكتشاف هذا الشاعر الذي إرثُهُ بات ركناً أساسياً من إرث فرنسا الأدبي.
ولم ينتهِ المعرض بانتهاء أيامه مفتوحةً للزوار طوال خمسة أشهر، بل عمدت “دار فلاماريون” الباريسية الشهيرة الى إصدار كاتالوغ أنيق فخم عن المعرض ضَمَّ جميع أجنحته موثَّقَةً بصُوَرٍ ونصوصٍ وشهادات، ما يَجعلُ هذا الكتاب (وعنوانه “باريس الحلوة”) أثراً نادراً قَيِّماً في المكتبة يُبقي المعرضَ مَحفوراً في ذاكرة المدينة والوطن والقراء.
ومن باريس الى بيروت التي هي هذا العام “عاصمةٌ عالمية للكتاب”: تستاهل بيروت، تستاهل كثيراً، أن تَشهدَ معرضاً للأعلام من أبنائها أو سكّانِها أو روّادها الأوفياء الذين غَنَّوها وأحبُّوها وكرَّموها فخَلُدُوا بِها لتَخْلُدَ بِهم، وأن ينتهي المعرض بصدور كتاب عنه فخمٍ وأنيقٍ يكرّس مواده مَحفوظاً في المكتبات الشخصية والعامة إرثاً لِمجد بيروت بـ”أقلامهم”.
هكذا المدنُ الحضاريةُ تُكَرِّم كبارَها الذين ارتبط اسمُهم بِها فربَطَت باسْمِها أَسماءَهم لتَخْلُُدَ بِهم. وإذا المواطنون ينتسبون الى مدينة ولدوا أو عاشوا فيها، فالمدينة هي التي تنتسِب الى أعلامها الخالدين نُجوماً تَجعل لياليها نَهاراً دائماً في شمس المستقبل.
لا يكفي أن تعجّ بيروت بتماثيل وأسماء شوارع (معظمها لسياسيين لا مُبدعين) كي تَحفظ ذاكرتَها للأجيال الآتية، بل فَلْتَتَزَيَّ وتَغْوَ وتُباهِ وتَسعَد بآثار أعلام مبدعين يَجمعُهم معرضٌ لأيام، ثُم يُخلّدهم (ويُخلّدها) كتابٌ على مدى الأيام.
وليسوا قليلين، أولئك الذين غَنَّوا بيروت، الحلوة بيروت، مدينةً خالدةً في ذاكرة الزمان.