هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

602: عبقرية “اللغة” وأفقيّة “اللغات”

عبقرية “اللغة” وأفقيّة “اللغات”
السبت 20 حزيران 2009
ڤانكوڤر (كندا)- 602 –
أبعد من أن تكون في كندا محاضراتي الثلاث في لغات ثلاث: ما كان من وقْعها المشترك في ثلاثة أصناف من الجمهور.
كيف يكون مشترَكاً وقعٌ واحدٌ لثلاث فئات من الجمهور؟ إنها لغة التواصل التي هي أبعد من اللغة في ذاتها، لتكون تعبير الـ”كيف” لا عبارة الـ”ماذا”. فالـ”ماذا” موجودة في اللغة، كل لغة، قاموساً ومفرداتٍ وتعابير، معطاة لكل كاتب أمام ورقة بيضاء ولكل خطيب إلى منبر. أما الـ”كيف” فهي دُرْبَة استخدام اللغة وسيلةَ تواصل لا وسيلة اتصال. التواصل يوصل إلى العقل فالمنطق، الاتصال لا يوصل إلاّ إلى التبليغ. وللّغة دور أكبر من أن تكون مُجرّد تبليغ.
في مركز الرابطة الفرنسية (ڤانكوڤر) كانت مُحاضرتي بالفرنسية عن “جبران لكل زمان”، وفي جامعة سايمون فرايزر (ڤانكوڤر) كانت بالإنكليزية “لِماذا جبران لا يزال يهمّنا حتى اليوم؟”، وفي مركز الجمعية اللبنانية الكندية (ڤيكتوريا) كانت بالعربية عن “جبران ولبنان”. ثلاث صالات مُختلفة لثلاث فئات مختلفة من الجمهور، ومع ذلك وصل إليهم جبران في رسالته الإنسانية الشاملة، ورؤيته اللبنانية الكاملة، وشخصيته الأدبية والفنية الحاملة حضوراً لكل زمان ومكان.
الشاهد هنا: الكلمة وتأثيرها في المتلقّي. وهذا ما أضاء عليه مؤسِّسُ البُنيانية في اللغة العالِم الألسني السويسري فردينان دو سوسّور (1857- 1913) في تَمييزه بين “اللغة” و”اللغات”. فـ”اللغة” عنده “دُربةُ التعبير في إشارات تتخطى القاموسية إلى أشكال التواصل البشري”، بينما “اللغات” هي “وسيلة اتصال تبليغية بين أبناء لغة واحدة، أو يفهمون هذه أو تلك من اللغات”. ويوغل دو سوسور أكثر فيميّز بين دُربة “اللغة” (كما حدّدها أعلاه) ووقْع “الكلمة” التي يفترَض بكاتبها أو مُلقيها أن يستخدم لها إشارات ألسنية خاصة في سياق مُحدَّد خاص لا تصُحّ في سواه، أو لا يكون لها الوقعُ نفسُه في سواه. وهذا ما يُميّز كلمة في دربة “اللغة” عن الكلمة نفسها في استخدامها السياقي. وبذلك نزع دو سوسور الكلمة من متحفيّتها القاموسية أو النُطقيّة، ووضعها بَهيّةً ذاتَ هَيبة وحضور حين تدخل في سياقٍ يُبرزُها بإشارات مُحدّدة لهذا السياق.
من هنا يُحدّد دو سوسور الفرق بين المفسَّر (بفتح السين) والمفسِّر (بكسر السين). فالمفسَّر هو المعنى الذهني المألوف للكلمة(كتاب، قلم،…) وهو يَختلف قيمةً، لا معنى، من لغةٍ إلى أخرى بفروقات ذهنية موروثة. والمفسِّر هو المعنى الصوتي للكلمة، وهو يَختلف تعبيراً من لغة إلى أخرى: من يَلثَغ بالراء مثلاً يَختلف تعبيره بين “غنَّى” (من الغناء) و”غَنَّ” (من الرنين).
هذا الأمر، انطلاقاً من مدلولات دو سوسور لـ”اللغة” (تَوَاصُلاً) و”اللغات”(إيصالاً)، ينسحب على الأدب عموماً وعلى الشعر في شكل أخص. فما يُميِّز كاتباً عن آخر، وشاعراً عن شاعر: لا “ماذا” في كلمات نصّه، بل “كيف” عبّر سياقياً عن تلك الـ”ماذا” في النص نفسه (كلمة “باخرة” مثلاً، قد تَرِدُ عاديةً في نصّ نثري، لكنها لا تَمُرُّ سائغةً في نصٍّ شعريٍّ جَمالي، بينما كلمة “سفينة” تعبر أكثر في سلاسة سياقية شعرية).
إذا كان صحيحاً (وإنه كذلك) الكلام على “عبقرية اللغة”، فـ”العبقرية” اللغوية هنا ليست الكلمة في ذاتها بل وضعُها السياقي في مكانها الذي لا يصحّ سواه. وإذا كانت مقولة “وضع الكلمة المناسبة في مكانها المناسب” تصحُّ في النثر، فللشعر مقولة “وضع الكلمة في مكانها الذي لا تصح إلاّ فيه”. من هنا أنّ وقْع اللغة (كتابةً أو خطابة) هو في استخدام السياق الشعريّ في النثر (كتابةً أو خطابة)، لأنه “يفعل”، أعمق وأبلغ، في الجمهور من أي فئة كان، وفي أية لغة تتمُّ مُخاطبته.
وهذا ما يفسِّر بلوغَ جبران واضحاً في الوقْع نفسه ثلاثَ فئات بثلاث لغات في ثلاث صالات جمهورٍ أصغى إلى كلامي في جبران، لا لأن القائل فيه أفضل من سواه، بل لأن جبران الغنيّ لا يمكن بلوغه بالإيصال اللغوي، بل بالتواصل الذهني.
وهنا الفرق بين عبقرية “اللغة” وأفقيّة “اللغات”.