هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

599: … ومعظمهم سينتهون صُوراً على حيطان

… ومعظمهم سينتهون صُوَراً على حيطان
السبت 30 أيار 2009
نانسي (فرنسا) – 599 –
عند دخولي متحف نانسي لفتتني منحوتة من خشب النباتات الشوكية لابن المدينة النحّات إميل غاليه (1846-1904) مؤسس “تيار نانسي” الفني (1901)، وعليها هذه العبارة: “إنها من شوك فرنسا. وأنا متعلّق بقلب فرنسا، كلّما جرّحتني أشواكُه، تعلقْتُ به أكثر”. وهو لم يُبْقِ هذا التعلُّق نظرياً بل ترجمه أعمالاً تُمجّد فرنسا وتعلُّقه بِها. وهذا هو الوفاء للوطن من مبدعين يُخْلصون له أكثر من سياسيين، فيحفرونه في ذاكرة الزمان وتحفظ الذاكرة الجماعية أسماءهم لا الى غياب.
وفي أرجاء نانسي رأيتُ معالم عدّةً على اسم الملك الپولوني المخلوع ستانِسلاس (1677-1766) وهو كان عالي الثقافة مدمناً على المعرفة، وحكَمَ دوقيّة اللورين (1735-1766) وحين تزوّج ابنتَه الملك الفرنسي لويس الخامس عشر كان في الاتفاق العائلي أن تؤول مقاطعة اللورين الى فرنسا عند وفاة ستانِسلاس. وهكذا كان، وانضمَّت المقاطعة الى فرنسا، وفيها مدينة نانسي الحاملة اسم ستانِسلاس على حديقتها العامة وساحتها العامة الكبرى (إحدى أجمل الساحات العامة في العالم) مطرَّزةً بِمحيط دائري من أبنية جميلة مُحافظة على ريازتها الباروكية من القرن الثامن عشر، وتتوزَّع فيها اليوم بلدية نانسي والمكتبة العامة ودائرة السياحة ودار الأوپرا، وفي وسط الساحة تمثال كبير للملك ستانِسلاس يشير بيده الى قلب المدينة.
الشاهد من هذه المقدمة أنّ الحاكم الرؤيوي هو الذي يترك بعده أثراً حضارياً وثقافياً وفنياً يُخلّده على الأيام، طويلاً بعدما ينسى الناس كم مرسوماً أصدر على عهده، وكم وزارة شكَّل، وكم سياسياً استقبل، وكم زيارة رسمية خارجية قام بها على عهده.
أسوق هذا الكلام ونحن في حمأةٍ من غليان انتخابات نيابية بعد أسبوع، تتلاطم لأجلها الشعارات واليافطات والصوَر وعباراتٌ تتوخى السجَع والطباق والجناس واللعب على الحروف والكلمات بالعربية والأجنبية، بتكبير الصوَر ورموزية الألون وطريقة الخطوط، وليست في معظمها سوى عنتريات شخصية وشخصانية، ووُعودٍ تنظيرية مغرية لا تُقنع أحداً، وغمز يتحدّى المرشَّحين الخصوم، وردودٍ على شعارات المنافسين، معظمها في تعابيرَ بعضُها ساذج وبعضها الآخر سمج، وهي شعاراتٌ ستنتهي، كمعظم أصحابها، ورقاً على حيطان، وعباراتٍ مُصفَرَّةً في سطوع الشمس الذي لا يرحم.
أربع سنوات تَمُرّ بعد أربع سنوات، ومَجالس نيابية تتتالى بعد مَجالس، ونادراً ما يترك ركاب “ساحة النجمة” أثراً للوطن يَذكُرُه بعدهم التاريخ في كتب التاريخ وفي البرامج السياحية. وقلائل جداً هم الذين وصَلوا الى الحُكْم وتركوا أثراً بعدهم للبنان المستقبل. ويَظلمهم (بل يَخون ضميره، إن كان لديه ضمير) من يَجحد فضلهم وأثرهم في ما تركوه من معالم عمرانية للبنان الآتي، لبنان المؤسسات والدولة وحضارة العصر والرؤية الواعية.
في مقهى رصيف، عند طرف ساحة نانسي، تظاهرتُ بالجهل وسألت نادل المقهى عن صاحب هذا التمثال الضخم في وسط الساحة، فلم يكتفِ بالقول إنه تمثال ستانِسلاس بل انفلش لي في مُحاضرة موجزة أظهرت ضلوعه في تاريخ مدينته ومعالمها، وتبيَّن لي كم انّ مواطناً عادياً بسيطاً هنا يعرف الكثير عن أصحاب الأثر المجيد على مدينته وبلاده.
فكم عندنا، في لبنان، مواطنون عاديّون يعرفون أن يعطوا فكرة مضيئةً عن صاحب أثر حميد على لبنان الوطن والدولة؟
هذا السؤال، في هذا الأُسبوع بالذات، يبقى برسم مواطنين يتسابقون ببّغاوياً الى الانسياق أغناماً وراء هذا أو ذاك من سياسيين مرشحين ليس لمعظمهم على لبنان أثرٌ يستحقُّ الذكر، سوى أسمائهم على اليافطات، وصُوَرهم على الحيطان، ولن يبقى منهم أثرٌ للذاكرة الجماعية إلاّ بمقدار ما تَحفظ الذاكرة القصيرة اسماً على يافطة أو صورة على حائط.