هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

576: جبران ودبغي… وبينهما لبنان

جبران ودبغي… وبينهما لبنان
السبت 20 كانون الأول 2008
– 576 –
كتبَت ماري هاسكل في إحدى يومياتها أن جبران رفض أن يطلب الجنسية الأميركية، وبقي طوال حياته على “بطاقة الإقامة الدائمة” (الـ”غرين كارد” بتعبير اليوم)، قائلاً لها إنه “يريد أن يموت لبنانياً”.
وبينما كان (في صومعته النيويوركية) يرسم پورتريه صديقه ميخائيل نعيمة، ذات صباح من نيسان 1923، قال له: “أُمنيتي يا ميشا أن أرى وادي قاديشا قبل أن أموت”. لم تتحقق أمنيته لأنه عاد الى وادي قاديشا إنما… مطفأ النور في عينيه.
هذا الشغف بلبنان من عبقريٍّ لبناني الجذور، عُدنا فوجدناه عند العبقري الآخر، ذي الجذور اللبنانية، مايكل دبغي الذي لم يولد في لبنان (هاجر والداه من مرجعيون الى لويزيانا حيث وُلد سنة 1908) لكنه حقّق أمنيته يوم كان في الثانية عشرة (1920)، وجاء الى لبنان وزار مرجعيون مع والدَيه. وبقي لبنان في باله عاطفياً ونوستالجياً، فعاد إليه لاحقاً مراتٍ كانت أخيرتها سنة 2005، وزار جديدة مرجعيون حريصاً على الاحتفال (7 أيلول) بعيد ميلاده السابع والتسعين في بلدة والدَيه، فدخل بيوت أقربائه وأنسبائه (أبرزهم موريس دبغي مدير كلية مرجعيون الوطنية) وزار مستشفاها وكنائسها، وتَجوّل في شوارعها مغتبطاً راضياً هانئاً في سعادة اللقاء والمكان.
بعد ثلاث سنوات (في 10 نيسان هذا العام) حين زارته رئيسة الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا هيام صقر ونائبها الدكتور نبيل حيدر، سائلَينه موافقته على إقامة تمثال له داخل حرم الجامعة (الأشرفية، في “حديقة المبدعين اللبنانيين” التي تصدّرها العام الماضي تمثال جبران)، لم يوافق فقط، ولم يشكُر فقط، بل وَعَدَ بأن يأتي هو الى لبنان ويزيح الستارة عن تمثاله. وفي تلك الجلسة باح بالكثير من تعلُّقه بلبنان وإيمانه بالطاقات اللبنانية والعقل اللبناني وأسفه أن تكون الدينامية اللبنانية فاعلةً مبدعةً في معظمها خارج لبنان. وحين توفي (11 تموز 2008)، ودفنته الحكومة الأميركية في مقبرة آرلنغتون (المخصَّصة لعظماء أميركا وأبطالها فقط)، دفنت جثمانه ولم تدفن شغفه اللبناني.
في اليومين اللذين أمضتهما زوجته كاترين في لبنان مدعوّةً من الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا للمشاركة في تركيز تمثالَين لزوجها (بإزميل الإخوة عساف) وضعتْهما الجامعة في بيروت (حرم الجامعة) وفي جديدة مرجعيون (مدخل البلدة) ردَّدَت أكثر من مرة كم كان يعني له لبنان، وما كان يعني له لبنان، وأنْ كان يطيب له المجيء الى لبنان، هو الذي لم تتَّسع له حتى أميركا فامتدّت مآثره الى وسع العالم كله، وظلّ قلبه ينبض للبنان.
هذا اللبنان… هذا اللبنان !!!
مشغوفاً به كان جبران، فلم يعُد إليه إلاّ جثماناً. ومشغوفاً به كان مايكل دبغي فجاء إليه وازداد به شغفاً. وعاد إليه ميخائيل نعيمة (1932، بعد أقلّ من عام على وفاة جبران) فبقي فيه وتصومع متنسكاً في الشخروب حتى غيابه (1988).
هذا اللبنان… عباقرتُه مشغوفون به. من الخارج يرَونه على حقيقته ويَحرصون عليه. والمقيمون على أرضه لا يعرفون قيمته الفريدة المغايرة النادرة، وينساق كثيرون منهم أغناماً قطعانية ببّغاوية استزلامية زبائنية وراء بعض السياسيين الذين في معظمهم لا يعرفون أبسط المآثر العظمى من إرث لبنان في الحضارة العالمية، تاريـخيِّها والإبداعيّ والإنسانيّ.
جبران ومايكل دبغي… وبينهما لبنان!
هذا هو لبناننا الحقيقيّ، نَحن اللامُنتمين ولا الى أيِّ واحد من أولئك الـ”بيت بو سياسة”.
وأكثر: نرفض حتى أن ينتموا هم إليه، كي لا يدنِّسوه بسياساتهم المصلحجية الصغيرة.