هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

568: تجربة تراثية طليعية في البحرين

تجربة تراثية طليعية في البحرين
السبت 18 تشرين الأول 2008
البحرَين – 568 –
حين وصلتْني الدعوة من البحرَين الى أمسية “حوار القصيدة والريشة والنغم”، في “مركز الشيخ ابرهيم بن محمد آل خليفة”، دار في بالي أنْ ستكون الأمسية في قاعة عادية لِجمعية ثقافية كعادة الجمعيات في تنظيم الأمسيات الثقافية.
غير أنني، بوصولي الى هنا، انقشَع أمامي فضاءٌ ثقافي واسع أسَّسَته وتديره السيّدة (الشيخة) مي بنت محمد آل خليفة، انطلاقاً من مركز رئيس تفرَّعت عنه بيوت ثقافية عنوانُها الأول الحفاظ على التراث، أعلامِه ومعالِمه.
المركز كان أصلاً بيت الشيخ ابرهيم بن محمد آل خليفة، مؤسس أول مجلس ثقافي في جزيرة المحرّق (كانت في مطلع القرن العشرين عاصمة البحرَين الثقافية والإدارية، قبل انتقال العاصمة الى جارتِها جزيرة المنامة). وفي هذا البيت كان الشيخ ابرهيم يستقبل أقرانه، الخليجيين خصوصاً والعرب عموماً، من أهل الأدب والفكر والثقافة الى مَجالس فكرية ثقافية، كما كانت تَرِدُ إليه دوريات ومطبوعات ومراسلات منه وإليه لتوسيع الأفق التراثي والثقافي، ما شكّل صورة مشرقة لِمجتمع البحرَين في العقود الأُولى من القرن العشرين.
وقبل أن تبدأ به جرّافة الهدم، أنقذته الحفيدة مي (مطلع 2002) بترميمه وتَحويله مركزَ نشاط ثقافي ودراسات أدبية تاريخية وملتقى للحوار يستقطب (ببرنامج سنوي مُكثَّف) أعلاماً عرباً وغربيين، ما جعل منبره ملتقى حوار دولياً عالي المستوى.
ومن الهدم أيضاً أنقذَت الشيخة مي بيت عبدالله الزايد (الصحافي البحريني مؤسس جريدة “البحرين” سنة 1939) فرمّمتْه (مع المحافظة على تراثه البحريني المعماري) وحوّلته (2003) “مركز تراث البحرين الصحافي” جمعَت فيه الطبعات الأُولى من صحُف البحرَين وفتحَت منبره لكبار الصحافيين العرب يُحاضرون فيه وسط مكتبة كبيرة لتاريخ الصحافة ووثائقها النادرة.
وللحفاظ على التراث الموسيقي البحريني رمّمت بيت محمد بن فارس وجمعت فيه آثاره (أسطواناته، أغراضه الشخصية، ريشة عوده،…) ووثائق الحقبة التي عاش فيها، لتكون مراجع الدارسين والباحثين في فن الصوت والفنون الشعبية البحرَينية.
وللحفاظ على الشعر – وما أنبل الحفاظ على الشعر ومغاني الشعراء-، رمّمَت السيدة مي منْزل الشاعر البحرَيني الكبير ابرهيم العريِّض وحرصت على تسميته “بيت الشعر” احتراماً لصاحب البيت الذي يَحفل اليوم بِمخطوطاته وكتبه وصوَره الكثيرة ومراسلات كثيفة بينه وبين كبار العصر (على المدخل رسالتان إليه من ميخائيل نعيمة ونزار قباني، ومن نقولا زيادة).
وللحفاظ على التراث الحِرَفيّ رمّمت بيتاً تراثياً جعلتْه “بيت الكورار” (تطريز مَحلّي على غرار حرفة النول في لبنان).
وللحفاظ على فضاء سليم للطفولة، أنشأت الحفيدة الوفيّة مركز “أَقرأ” للأطفال ذا مكتبة متخصصة بهم، كتباً ووسائلَ سمعيةً وبصرية متطورة جداً، مع قاعات للمطالعة وأخرى لعروضهم وتمارينهم وأَلعابِهم التربوية.
وأخيراً، لتركيز “نشر الثقافة والحوار واستضافة معارض خاصة بالتراث المعماري” قامت بترميم منْزل قديم أسمته “بيت جَمشير”، في مشروع مشترك مع المعهد الثقافي الفرنسي، وبات اليوم، بموقعه وهندسته التراثية الجميلة، ملتقى أقطاب من العالم.
هذه الظاهرة الطليعية من البحرَين، أسّستْها الرائدة مي بنت محمد آل خليفة، تَجربة نَموذجية لِحفظ التراث في مغانيه (أحياء قديمة ذكَّرَتْني بأحياء أصيلة في المغرب، ولولبات السوق العتيق في زوق مكايل) هي النبض الذي، بالمحافظة عليه، نَحفظ المستقبل من نافذة الماضي. وما أحوجَنا الى حفظ معالِم تراثنا المعماري بِتَحويلها مراكزَ ثقافية وتراثية تَحفظها وتُحافظ عليها فلا تذهب البهرجة الى الأبنية “المودرن” على حساب هدم الأبنية التراثية.