هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

567: النشيد الوطني… واليدُ على القلب

النشيد الوطني… واليدُ على القلب
السبت 11 تشرين الأول 2008
– 567 –
حين حضرتُ للمرة الأُولى (1984) احتفالاً لبنانياً في واشنطن، لَفَتَني أنّ كلاًّ من الأميركيين (واللبنانيين المتجنِّسين هناك)، عند أداء النشيد الوطني الأميركي، وقفَ بإيمانٍ عميق، رأسُه مرفوعٌ، يدُه اليمنى إلى الجهة اليسرى من صدره، حيث القلب، وأنشدَ بالصوت الجهوري، عيناه صوب الـ”فوق” ثابتتان، لا التفاتَ خلال الإنشاد الى أي اتجاه آخر حتى نهاية النشيد.
ثلاثة أمور لفتَتْني في هذا الأمر: الجدّية في الوِقفة، النظر الثابت فلا حراك، وخصوصاً: اليدُ الى القلب. وإذا كان اللبنانيون، في كثرتهم الرصينة، يزاولون الوقوف الجدي والنظر الثابت عند سماعهم النشيد الوطني اللبناني (ومعظمهم يرافقونه إنشاداً بأصواتهم الحية) فعادةُ وضع اليد على القلب ليست من طقوس نشيدنا الوطني، على ما في هذا الطقس من مغزى عميق. فالنشيد الوطني، للمواطنين، صلاة للوطن يؤدُّونها مثلَما يصلُّون. وكما يصلّي المؤمن يومياً فرضه الصباحي أو المسائي أو صلواته اليومية، هكذا النشيد الوطني: ليس أقلَّ هيبةً وتقوىً وتَجديدَ إيمانٍ من الصلاة الطقسية.
دليل هذا الاهتمام: ما نعاينه لدى مؤسسات تربوية كثيرة (جامعات أو ثانويات) ونوادٍ وجمعياتٍ وقرى وبلداتٍ ومدنٍ وفرق رياضية من أناشيد خاصة بها يُنشدها أعضاؤها أو ذووها أو عناصرها عند بدء كل احتفال لها أو مناسبة، ما يشير الى الارتباط العضوي الوثيق بين النشيد والجهة صاحبة النشيد.
هذا الأمر يقودُنا الى الكلام على الانتماء. فالنشيد الوطنيُّ (في أيِّ وطن) مكرَّس ومقدَّس ومعصوم عن التجاوز، لأنه رابطُ الانتماء بالوطن كما الصلاة رابط الانتماء بالله. ومن الطبيعي أن يتصدَّر بدءَ كل احتفال، تجديداً لانتماء المحتفلين الى وطنهم الذي يظلِّلهم ويَحميهم ويعطيهم نعمة الحياة على أَرضه وتَحت سَمائه وفي حماه، تماماً كما الصلاة (كلّما جثا المؤمنون أو وقفوا أو اختلوا يصلّون الى الله) تَجديد انتمائهم الى ربهم الذي يظلِّلهم ويَحميهم ويُعطيهم نعمة الحياة في حمى عنايته الإلهية.
حين كنتُ أترجم الى العربية (سنة 1974 لـ”منشورات عويدات”) كتاب وزير العدل (يومها) في فرنسا الكاتب آلان پـيرفيت “يوم تنهض الصين يَهتزُّ العالَم” استوقفَني فيه أنّ العمّال في المصانع والتلامذة في المدارس والطلاب في الجامعات والموظفين في مكاتبهم كانوا يومياً (أُكرِّر: يومياً) يُصغون الى من يقرأ عليهم مقاطع من كتاب ماو تسي تونغ “الكتاب الأحمر الصغير” (وهو كتاب الثروة الثقافية الذي يضم فقرات من خطب ماو ومقالاته)، وذلك لترسيخ “العقيدة”، وعيِيّاً أو لاوعيِيّاً، في نفوس المصغين يومياً وتنشئتهم عليها وعلى “طقوسها”.
من هنا أن التكرار الدائم في الوضع الواعي يزيد من ترسيخ الإيمان في الشعور اللاواعي: في الضمير، في القلب، في العاطفة، في التعلُّق، في الهيام، في الإخلاص، في الحالة الروحية أو الروحانية أو النفسية التي تؤدي الى “الفعل الإقتناعي”. وهذا ما يفسِّر بلوغ الإنسان الانخطاف الإيماني الى حدّ الاستشهاد من أجل دين، أو عقيدة، أو إيمان أو وطن.
هذه هي “هيبةُ” النشيد الوطني الذي يستغرب البعض (من ضعيفي الإيمان) عزْفه أو أداءه عند بدء كل احتفال، فيما هو أيقونة الوطن المحمولةُ تحت سماء الوطن وتحت كل سماء (من هنا عزفه مع نشيد البلاد الأخرى عند استضافة شخصية رسمية).
يبقى الأداء: لا أعرف إن كانت ظاهرة وضع اليد على القلب في حاجة الى قرار رسمي أم انها عادة نابعة من الشعب، لكنّ أداء النشيد الوطني، باليد على القلب، ظاهرة إيمانية عميقة يحتاجها الوطن من أبنائه ويؤديها المواطن لوطنه بلا أقل من إيمانه بِحبيبته حين يعبِّر لَها، شعورياً أو لا شعورياً، عن حبِّه الكبير النابع من قلبه العاشق.