هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

544: لمجدك يل بيروت هذا الوجه الحضاريّ

لمجدك يا بيروت هذا الوجه الحضاريّ
السبت 26 نيسان 2008
– 544 –
بينما تَغرق بيروت السياسيين في وُحول الأوضاع الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ووسْط مَشاهد التشاتُمات الْمتبادَلَة والاعتصامات والكيديات والتصاريح الإعلامية الْمتاريسية، وفيما ينقسم الناس في بيروت بين التبَعية الببّغاوية القطعانية العمياء لهذا السياسي أو ذاك، ولهذا التيار أو ذاك، ولهذا الحزب أو ذاك، وتتشلّع بيروت السياسية إلى أحياء طائفية وزواريب مذهبية وشوارع يافطاتية تظاهراتية تَهييصية انْحيازية، تتجمَّع بيروت الثقافية على بعضها البعض، مضيئةً بالأنشطة المتواصلة والاحتفالات الأدبية والفنية والأكاديمية، كأنّما هي تشيح عن بيروت السياسة والسياسيين (تُشيح عنها أو تشمت بِها أو تقرف منها أو تشفق عليها،… لا فرق)، مثبتَةً أيضاً وأيضاً أنّها هذه بيروت الحقيقية، غير الآنيّة وغير الظرفيّة وغير المؤقّتة، بيروت التي كانت (ولا تزال وستبقى، رغم جراحها) مرنَى المثقفين العرب، ومدينة حلمهم وتوقهم إلى الحرية (الحرية المسؤولة طبعاً).
وإنّها، بالفعل، هذه بيروت الحقيقية التي لَم تتوقَّف ولا تتوقَّف عن نبض. بيروت الأمسيات الشعرية والموسيقية، بيروت النشر المتواصل، بيروت معارض الكتب وأنشطتها الْمُصاحِبة الراقية، بيروت تواقيع المؤلفين على جديدهم، بيروت الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية والأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية وأوركسترات الحجرة وجميعها لم تتوقَّف أُسبوعاً واحداً عن تقديم أروع الريبرتوارات الكلاسيكية العالَمية أو الشرقية أو اللبنانية، لجمهور كثيف من لبنانيين وضيوف راقين، يتهافتون إلى الحضور، ولو وُقُوفاً أحياناً، ورغم جميع الحالات الأمنية الحذرة، كأنّما ليَخرجوا من قرف الجو السياسي المحيط بِهم، غاضبين على مسبّبيه، مستسلمين إلى 70 أو 90 دقيقة من الموسيقى النابضة في الزمان قبل أن تكون نابضة فيهم.
هذه هي بيروت الحقيقية. بيروت الأفلام اللبنانية قاطفة الجوائز العالمية. بيروت المؤلفات اللبنانية نائلة الجوائز الدولية. بيروت المعارض التشكيلية وسمبوزيومات الرسم والنحت والموزاييك، بيروت الندوات الفكرية والأكاديمية والاستذكارية، بيروت المسارح الغنائية والمسرحية التي تعاند عروضُها على الاستمرار ولو بِجمهور متواضع أحياناً.
هذه هي بيروت الإبداع اللبناني الذي يواصل إشعاعَه في لبنان عن لبنان ومن لبنان إلى العالم، ولا ينتظر اكتمال النصاب حول طاولةٍ في السراي الحكومي، ولا يهتمّ لإقفال القاعة العامة في ساحة النجمة، ولا يتوقّع خروج الزير من بير قصر بعبدا بسرعة قياسية بين نهار انتخاب وأيام بداية عهد رئاسي جديد.
هذه هي بيروت الحقيقية التي لا يَبنيها لؤلؤةً حضارية فكرية ثقافية للعالم (ولم يبْنِها يوماً) نوّاب ولا وزراء ولا مسؤولون ولا رؤساء ولا سياسيون، بل بناها (ويبنيها وسوف يظلُّ يبنيها) أبناءُ لبنان المبدعون الشعراء والأدباء والمؤلفون والأكاديميون والفنانون في كل حقل فني راقي المستوى، هؤلاء الذين يسير موكبُهم بِمجدٍ وجلال، ولا ينتظر انتهاء السياسيين من التشاتُم والتصادُم ونَحر الوطن يومياً بكلماتهم وتصاريحهم ومواقفهم وعناداتهم وكيدياتهم القاتلةِ كلَّ مستقبل للأمل في قلوب شباب لبنان.
هذه هي بيروت الثقافية الحضارية التي تواصل حياتَها الجميلة رغم الظروف البشعة التي يوقعها فيها “بيت بو سياسة”.
نعم: هذه هي بيروت الحقيقية. بيروتنا نحن. بيروت الأنقياء (غير الانتمائيين وغير الاصطفافيين) الذين يُنتجون ثقافة وحضارة، والأنقياء الذين يتلقّون قراءةً أو سماعاً أو مشاهدة أو حضوراً، ويعاندون جَميعاً في تَحدّي أخطار تترصَّدهم عند كل مفرق وناصية. بلى: هذه هي بيروتُنا. ولِمجد هذه الـبيروت نواصل نحن حياتنا الثقافية في بيروت الحياة.
فيا بيروت الغالية: لن يأخذكِ منا، ولن يأخذنا عنكِ، سياسيون يقرِّرون بارتِهاناتِهم مصيرَكِ السياسي الهشّ، فأنت باقية لنا لا لهم، وفينا لا فيهم، وبنا لا بهم، ولِمجدكِ، يا بيروت الحبيبة، كلُّ ما نَخدمه في هيكلك الطاهر، حتى يشفى من الدنس ويَخرج منه الخونة والكتبة والفرّيسيون واليوضاسيون.