هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

543: هكذا شبابنا يغادرون !!

هكذا شبابنا يغادرون !!
السبت 19 نيسان 2008
الرياض – 543 –
قبل 15 سنة، وفيما كنا خارجين مع ابني (أمِّه وأنا) من مَمَرّ الجامعة الطويل (جامعة فلوريدا الوسطى في أورلندو)، وحولنا زملاؤُه الطلاب المتخرّجون مثله، بعدما رموا في الهواء قبَّعاتهم الجامعية السوداء إيذاناً بانتهاء احتفال التخرُّج، لفَتَتْني سيارتا ليموزين بيضاوان عند بوابة الجامعة. سألت ابني إن كانتا هنا لتستقلاّ ابن أحد “النافذين” في المدينة أو في الولاية، فابتسم ابني، لا بدون بعض شفقة، وأجاب: “أَوَتظنُّ أنك في لبنان؟ هنا الناس سواسية أمام العلْم، لا ابن ست بينهم ولا ابن جارية، والنافذون السياسيون الذين اعتدت عليهم في لبنان، بوساطاتهم وتوصياتهم وتشاوُفاتهم وتخصيصاتهم وأولوياتهم العرضحالاتية، لا وجود لأمثالهم في هذه البلاد. هنا ابن سائق التاكسي مثل ابن حاكم الولاية. أما هاتان السيارتان اللتان تراهما، فأرسلت إحداهما شركة “جنرال موتورز” والأخرى شركة “مايكروسوفت”، تكريماً للزميلين المتخرجين معنا اليوم، الأول طليع دورة الهندسة الميكانيكية، والآخر طليع دورة هندسة الكومبيوتر. وكانت الشركتان استفسرتا من إدارة الجامعة عن الأول في دورته في كل اختصاص، ووقّعت معهما عقد عمل يبدأ مفعوله فور تَخرُّجهما اليوم معنا من الجامعة”.
تذكرتُ هذه الحادثة وأنا أُصغي إلى مُحدِّثي، هنا في الرياض، وهو مسؤول عن الموارد البشرية في شركة سعودية كبرى ويستعدُّ للسفر إلى بيروت كي يلتقي شباباً لبنانيين (في قطاع الهندسة) يتعاقد معهم على العمل هنا في المملكة (في الرياض وفي بعض المدن السعودية الكبرى) لكون الشركة تحتاج إلى عقول هندسية تسهم في أمبراطورية البناء والمقاولات وهو اختصاصها.
ومن حديثه، هذا اللبناني الطموح إلى إيجاد فرص عمل لأبناء وطنه، وبتشجيع من شركته الأُمّ التي تتطلّع إلى توظيف العقول اللبنانية في الشركة، وخصوصاً في قطاعات الهندسة والديكور والإدارة والبناء (مُشيحةً في معظم الحالات عن يد عاملة عادية تبحث عنها في دول أخرى من آسيا)، فهمتُ منه أنه استطاع، حتى اليوم، وفي السنوات العشر الأخيرة فقط، تأمين فرص عمل لنحو ستة آلاف من شباب لبنانيين ما إن تستقبلهم الشركة حتى يتدرجوا بسرعة في هيكلية وظائفهم ويحتلوا في فترة قصيرة مناصب قيادية وإدارية رئيسية في الشركة وفروعها ومنشآتها ومشاريعها الكبرى على امتداد المملكة.
وكنتُ، خلال زيارة ثقافية قصيرة إلى أبو دبي وأبو ظبي، العام الماضي، عاينتُ عشرات، وسمعتُ عن المئات بل الآلاف من شباب لبنانيين استقطبتهم دولة الإمارات إلى مدنها الكبرى، في قطاعات مختلفة كثيرةٍ، حتى أصبحوا يشكِّلون جالية واسعة، لا من عامة اللبنانيين، بل من عقول لبنانية خلاقة مبدعة تسهم في نهضة الإمارات العمرانية والتكنولوجية والميدانية.
والأمر نفسه عاينتُهُ، أو سمعتُ عنه، في زياراتي إلى كندا والولايات المتحدة وأُستراليا، حيث اللبنانيون – ومعظمهم من شبابنا المتخرجين أو الناجزي التخصُّص ذوي الخبرة – ضالعون في مجتمعاتهم، بارعون في حقول اختصاصاتهم، لافتون بسلوكهم وأخلاقهم وتعاملهم مع الآخرين، وخصوصاً بوفائهم للدولة التي تحتضنهم من دون تخلّيهم عن الولاء لوطنهم لبنان.
هكذا إذاً، أمام فرصٍ للعمل تتناقص يوماً بعد يوم، بسبب ما أوصلنا إليه في لبنان سياسيون شخصانيون كيديون يوضاسيون، يهجرنا شبابنا، وتستقطبهم دول العالم فينجحون، وبعقلهم اللبناني دُوَلَ العالم يملأون، ويفرغ منهم لبنان الذي، لو عادوا إليه وركزوا عقلهم الخلاق على نهضة وطنهم، لنهضوا به في أقلَّ من عام، وأعادوه جنّة الشرق ومرنى العالم، عوض أن يكون مصنع عقول مبدعة خلاقة لتصدير أدمغة تولد في لبنان ويستوردها العالم، بسبب حفنة من سياسيين خونة.
ذات يوم، كان في فرنسا مارشال يدعى بيتان. وذات يوم خان وطنه. وذات يوم حكموا عليه بالخيانة العظمى.
وسوف يَجيء يومُ يَحكم فيه لبنان بالخيانة العظمى على نفر غير قليل من “بيت بو سياسة”.