هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

512: جبران… بشرّي… والموسيقى

السبت 1 أيلول 2007
– 512 –
كان الليل ساكناً في بشرّي ليلتها (السبت الماضي)، والقمر يوزّع فضّته على قبة مار سابا المزدوجة وحيطان مار سركيس: الأولى تطلُّ على بيت جبران، والأخيرة تَحنو على جثمانه وروائعَ له كتابيةٍ (مخطوطة ومطبوعة) وتشكيليةٍ (زيتيات ورسوماً) يضمّها متحفه في عهدة وهيب كيروز رفيق هذا المتحف منذ 37 سنة أمضى فيه ربيع عمره وخريفه يكتب ويبحث.
ويكون أنّ المناسبة حفلة موسيقية سنوية لتخريج تلامذة “معهد جبران للموسيقى” (تابع للجنة جبران الوطنية) برعاية الدكتور وليد غلمية رئيس المعهد الوطني العالي للموسيقى وهو (بِمسعى من لجنة جبران) تبنّى “معهد جبران للموسيقى” ليُصبح بذلك هو الفرع الثالث عشر للكونسرفاتور الموسيقي الوطني الذي باتت فروعه منتشرة في معظم لبنان.
على منصَّة كنيسة مار يوسف في دير الآباء الكرمليين (بشرّي) تعاقب عشرات التلامذة (بين السنة الأُولى وما بعدها، وفي أعمار تتفاوت بين الطفولة والصبا والشباب) ليقدِّموا على البيانو أو الغيتار أو الريكوردر أو الكمان 52 معزوفة كلاسيكية من الكبار (شوبان، بيتهوفن، شوبرت، تشايكوفسكي، براهمز، فيفالدي، بارتوك،…) في أداء تَعْذُرُه السنّ عند التعثُّر وتفرح به الموهبة عند الإتقان، وفي الحالتَين واضحٌ جهدُ أساتذة المعهد في جهدهم التدريسي والعزفي والتثقيفي.
وكان واضحاً اهتمامُ لجنة جبران بهذا المعهد ونتاجه ونتائجه، كما نوّه رئيسها أنطوان الخوري طوق بدأب اللجنة على تطوير الفكر الجبراني منذ الأولاد في الطفولة الأُولى كي يكبروا فيكبر معهم جبران وتكبر بهم بشري التي تتهيَّأُ منذ اليوم لِما تُهَيِّئه اللجنة احتفاءً (سنة 2008) بِمرور 125 سنة على ولادة الذي ولِد فيها ذات ليلة عاصفة في 6 كانون الثاني 1883.
كما كان واضحاً اهتمامُ الكونسرفاتوار الموسيقي الوطني بهذه البراعم التي “لا يعرف أحدٌ مَن سيكون بينها ذات يوم قريبٍ موهوبون يبرعون عزفاً أو إنشاداً أو تأليفاً موسيقياً بدأوا رحلتهم مع الموسيقى منذ هذه السن النضرة” كما ورد في كلمة وليد غلمية الراصد على هذه البراعم (وجميع البراعم في فروع الكونسرفاتوار الأخرى) أملاً وسيعاً للبنان الغد الطالع من جذوع الموسيقى الى أغصان الإبداع اللبناني الذي به وحدَه أثبت لبنان هويته الحقيقية التي يباهي بِحمْلها الى العالم.
كأنها ليست مصادفةً أن يكون في بشرّي هذا الاهتمامُ بالموسيقى ترجمةً لتبشير جبران بها في أول كتاب له (“الموسيقى” الصادر قبل قرن وسنتين في نيويورك بعناية أمين الغريّب في مطبعة جريدته “المهاجر” سنة 1905) بأنّ “الموسيقى لغة النفوس، وألحانها نسيماتٌ لطيفة تهزّ أوتار العواطف”، كأنّما كان ينهَدُ الى تثقيف البراعم بالموسيقى كي ينشأُوا مهذَّبي النفوس، مثقفي أوتار العواطف، فتهذيب النفس يُهيِّئ للجيل الصالح، والوتر الثقيف هو الذي يرنُّ بالأجمل والأعذب من الألحان.
وكأنها ليست مصادفةً أن يهتمّ أبناءُ بشرّي بإسداء أولادهم الى حضن الموسيقى ينشأُون في عبقرية مدينة غادرها ابنها ذات ظهيرة من حزيران 1895 ليبلغ ظهيرة العالم فلا تعرف شمسه الغياب ولا الغروب، بعدما أوصى بنتاج قلمه وريشته لبلدته تحفظ إرثه وتحافظ عليه. وها هي عاماً بعد عام تفي بوفائها ونذرها والوصية فتُنشئ أبناءها على أصداء الرسالة الجبرانية.
ساكناً كان الليل في بشرّي ليلة السبت الماضي، والقمر يوزّع فضّته على قبة مار سابا المزدوجة وحيطان مار سركيس، وفي أرجاء مدينة المقدّمين تتردّد أصداء ابنها الذي لم تَغِبْ عن قلمه وريشته بشرّي ولا وادي قاديشا، حالماً أن يعود إليهما، وعاد، إنما مطفأ العينين عن بشرّي ووادي قاديشا بعدما أضاءهما في كل حرف من أدبه الفذّ، وفي كل رُقشَة من ريشته المباركة.