هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

509: حديث الغروب في “أصيلة” المغرب

حديث الغروب في “أصيلة” المغرب
الجمعة 10 آب 2007
أصيلة/المغرب- 509 –
– “أجدادُكم مَرُّوا من هنا”. طالعتْني بها أحلام (مثقّفة جامعية مغربية) وهي تَجول بي في أرجاء “القصر”، حين رأت نظَري عبر السور يَسيح في البعيد، من شاطئ الأطلسي الذي كان مع الغروب يستعدّ للجَزْر ململماً أمواجه التَعبى بعد نهارٍ مرهقٍ طويل من المدّ على رمل أسمر منبسطٍ عند سور المدينة القديمة.
وبـ”أجدادي” كانت تعني الفينيقيين الذين حطوا في هذه المدينة البحرية الجميلة “أصيلة” قبل أكثر من ألفَي سنة (وكشفَت الحفريات عن نقود فيها مسكوكة بحروف اللغة البونية)، وتلاهم القرطاجنيّون. الأوائل ربما في طريقهم إلى اكتشاف ما بلغوه قبل مئات السنين من كريستوف كولومبس، والأخيرون ربما في طريقهم إلى اكتشاف ما سمّوه “المدينة الجديدة” (قرت حدشت=قرطاجة) بقيادة أميرة من صور تدعى إليسَّا.
ولم تتوقَّف دليلتي الحسناءُ المغربيةُ الحماسة عن الشرح المبين لِمعالِم مدينتها الجميلة “جوهرة الشمال المغربي” التي ترصّع ضفة المحيط الأطلسي، قلادةً فريدة بين رصيفاتها المغربيات باحتضانها سنوياً “موسم أصيلة الثقافي”، منتدىً دولياً يندَه إليه أعلام الفكر والثقافة والفنون والآداب، لقاءً راقياً ومهرجاناً تشكيلياً وتظاهرةً موسيقية واحتفالات شعبية نقلت المدينة في ثلاثة عقود من حالة ركود بلغ حد الإهمال إلى عباءة مغربية ساحرة مطرّزة بالفعل الثقافي الجدي غير الرسمي، منذ انبرى لها ابنها العبقري محمد بن عيسى (سنة 1978 اشتراكاً مع مواطنه محمد المليحي) فنفض عنها الإهمال وعمل فيها تأهيلاً وترميماً تراثياً جعلها صورة المغرب الخارجية البهية قبل أن يصبح وزير خارجية المغرب البهيّ. وكم تغتبط المدينة بابنها الذي لا يرأَسُ مجلسها البلديّ وحسب، ولا منتداها الثقافي وحسب، بل يرأس ورشةً إبداعية حملت “أصيلة” من بلدة منسيّة نائية في الشمال تعيش على الزراعة وصَيد السمك، إلى مدينة مضيئة في القلب تعيش على زراعة الأفكار وصيد الجمالات التي تليق بوطنها المتوّج بالإرث العريق.
ولا تتوقّف أحلام عن الكلام، عن محطات مدينتها في التاريخ: جاءها النورمانديون من صقلية، احتلّها البرتغاليون في القرن الخامس عشر وسقط ملكهم قتيلاً على أرضها (في معركة وادي المخازن)، استعادها القائد الأصيلي أحمد المنصور السعدي، احتلّها الأسبان فاستعادها مولاي اسماعيل، استقر فيها القائد أحمد الريسوني حتى طرده الإسبان (1924) واحتلوها ثم احتلّها الفرنسيون تباعاً منذ 1912 حتى حرّرها محمد الخامس بثورته المباركة التي أدت إلى نيل المغرب استقلاله (1956).
وتَجُول بي أحلام في أرجاء “القصر” (قصر الريسوني الذي أعاد بن عيسى ترميمه عمراناً ونقوشاً وفسيفساءات مذهلة الجمال، وفق طرازه الأصلي الإسلامي الرائع، وجعله “قصر الثقافة”). تجول بي في أزقّة المدينة التي اتّشحت جدرانها بأبيض نقيّ يوشّي فيها شبابيك يَتَمَوْسَق فيها الأزرق الناصع والأخضر الراصع. نَمُرّ بين البيوت الملازّة. طرقات ضيقة نظيفة. أزهار وأغراس نباتية معرَورشة في ذوق. سكان دَمِثُون مضيافون معتزون بمدينتهم كأنها لكل واحد منهم. نصعد إلى أعلى البرج، “برج القمرة” ونُشرف منه على المدينة القديمة بأبوابها الثلاثة تخترق السور: باب القصبة، باب البحر، باب الحومر.
يعشَوشِبُ المساء على الحيطان التي تتزيّا بجدرانيات صاغتْها ريشاتُ فنانين من العالم. تضيء المصابيح العتيقة فوقنا فتزيد المشهد سحراً على جمال. تَمتلئ ساحة “القمرة” بالمتنَزّهين والسياح وضيوف “موسم أصيلة الثقافي”. تَمتلئ أرصفة المدينة بالمشاة “أصيليين” وسيّاحاً من كل صوب. يَمتلئ ليلُ “أصيلة” بوجه قمرٍ يتكئ على سور المدينة ويرافق الساهرين. تَمتلئ القلوب من “الله أكبر” بصوت المؤذن في مسجد المدينة. تَمتلئ أحلام غبطةً وحبوراً بمدينتها الجميلة، وتسألني بخفر نبيل: “أحبَبْتَها مدينتنا”؟
– كيف لا، يا أحلام، وأنا أسمع فيها أصوات بحارةٍ من بلادي حطُّوا على شاطئكم في طريقهم إلى غزو مجاهل البحار!