هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

508: حتى يعود لبنان إلى لبنان

حتى يعود لبنان إلى لبنان
السبت 4 آب 2007
– 508 –
مُرافقي من المطار إلى الفندق في عمّان (عضو الهيئة العليا لِمهرجان جرش) مهندسٌ أردني مثقَّف زار بيروت مراراً ويعرف مناطق شتى من لبنان. ومن يسمعه في السيارة يحادثني عن لبنان، يظنّه لبنانياً أباً عن جَد، لِما كان في حديثه من حُرقة على ما يَجري في لبنان وما بلغه من وضع مضطرب، وقلق على ما قد يؤول إليه الوضع من حالة أسوأ.
ولم ينفكّ، طوال الطريق، يسأل ويتساءل عن الـ”كيف يَجري ما يَجري” والـ”لماذا لم يكن مُمكناً تداركُ ما يَجري”، ويروي لي عن تحويل آلاف السياح وجهتَهم عن لبنان إلى دول الجوار أو المحيط، وعن الفرادة الأعجوبية في شعب لبنان، والجمال الطبيعي اللامثيل له في دول الجوار والمحيط، وعن المناخ المتفرِّد في مصايف لبنان، والمذاق المتعدِّد في فاكهة لبنان، وسحر نفسي في كل لبنان لا يُمكن تفسيره ولا التعبير عنه، وهذا التعلُّق الذي يُحسه الزائر (العربي خصوصاً) وهو في لبنان.
وفي عمّان، حولي بين أروقة الفندق، ولدى كلّ من زرتُه أو التقيتُه أو تعرّفتُ إليه، طالعني الشعور نفسُه والتعبير نفسُه عن هذا الشعور: حرقة على ما يجري في لبنان، واستغراب لكون مسؤولين فيه بلغوا هذا الحد من الأنانية والشخصانية والفردانية حتى بلغ الوضع ما بلغه من اضطراب وتشنُّج وخراب أمني وسياسي ونفسي، وشعور من التقيتُهم بوجع الحرمان من زيارة لبنان كما كان في وضعه الطبيعي الذي يعرفونه وعاينوه، أو يعرفون عنه ويتمنّون معاينته.
وفي جرش، جرش المهرجان والشعراء، طالعني زملائي الشعراء العرب، الذين أعرفهم أو الذين تعرفتُ اليهم، بالانطباع نفسه، والاستهجان نفسه، والوفاء نفسه للبنان الذي درجوا فيه على الشعر في مطالعهم، أو وقفوا على منابره، أو نشروا فيه مؤلفاتهم، أو أصدرت قصائدَهم صحفُه ومَجلاتُه. وتناولوا بيروت بالكلام الوفي والنوستالجي، بيروت التي عرفوها أو يتشوّقون لأن يعرفوها، وهي اليوم غارقة في مستنقعات سياسية آسنة أو وسخة أو مضطربة أو حذرة أو خطرة.
وتتردَّد أصواتهم في صمتي كلما أختلي لوحدي بعيداً عنهم: “لبنان لنا جميعاً وليس لكم وحدكم، لبنان حاجة لنا جميعاً وليس ضرورةً لكم وحدكم، لبنان جوهرتنا جميعاً وليس وطنكم وحسب، لبنان موئلنا وملجأُنا وواحتُنا فاتركوه على فرادته”.
هذا الكلام… هذا الكلام… ما أوجعه، رغم الحنان فيه، وما أقساه على قلبي وقلمي وضميري!
“إفعلوا أيّ شيء لتُنقذوا وطنكم قبل فوات الأوان”. سَمعتُها مراراً بتعبير أو بآخر، بنبرةٍ أو بأُخرى، ووقعتُ في الانفصام الصعب: “إفعلوا أيّ شيء”، و… “قبل فوات الأوان”.
وما الذي يستطيعه أكثر، بعد، قلم يَجلد سياسيي بلاده بسوط الغضب والثورة، ويُحرّض شعبه على التخلّي عنهم وعدم الانسياق وراءهم قطعاناً غبيّة تَهييصية استسلامية استزلامية، واعتناق الولاء للوطن لا للأشخاص، وللدولة لا للطائفة، وللدستور لا للزعيم ولا للقائد، وللقانون لا للمحسوبيات ولا للعشائريات ولا لسياسة المزارع والقبائل.
ثم… “قبل فوات الأوان”؟ شو يعني؟ أيَجيء يومٌ يصبح فيه لبنان أندلساً ثانية، يتحدّث عنه الجميع بصيغة الماضي، وبنبرة الحسرة والترحُّم والشفقة، وبنوايا التشفّي والشماتة من طقم سياسي متناسل جيلاً بعد جيل، استلم لبنان، منذ عقود، منارة مشعةً على مُحيطه، وأوصله لأن يكون ساحة الصراعات الإقليمية والدولية؟ أإلى هنا يعي بعض السياسيين أنهم أوصلونا وأوصلوا أولادنا حتى هجُّوا وهجروا وتَهجَّروا وهاجروا إلى غير رجعة؟
ما طالعني في عمّان أحرق قلبي وأثار قلمي. ولكن… لن يتوقف هذا القلب عن الاندفاع، ولن يتوقّف هذا القلم عن الصياح، ما دام في ذاك نقطة دم، وفي هذا نقطة حبر، فلستُ أنا أفضل مِمن سقطوا فتجمّدَت في قلبهم نقطة الدم، لكن نقطة الحبر ما زالت تسري في أقلامنا حتى يعود لبنان إلى لبنان.