هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

500: “السبق” الصحافي غيرُ “التسرُّع” الإعلامي

السبت 9 حزيران 2007
– 500 –
أول أمس (الخميس) والناس مسمّرون الى الشاشات (يجري في أسفلها شريط أخبار ما عاد يَحلو لِمحطة تلفزيونية أن تبث إلاّ وهو يَمرُّ حتى ولو كانت فيه أخبار عتيقة بالية تصبح مُملَّة بعد دورانها عشرات المرات أمام عيون المشاهدين) ظهَرَ خبر مفاجئٌ عن وجود كيس “مشبوه” عند زاوية ملعب في مدرسة ثانوية. وبعدما اجتاح الرعب في تلك المدرسة مئات التلامذة والمعلّمين والأهالي فهلع المعلّمون يَحصُرون التلامذة في الصفوف، وهرعت الإدارة تتصل بالأهالي كي يسرعوا في أخذ أولادهم من المدرسة، وبأقرب نقطة جيش وقوى أمنية وعناصر إسعاف وخبراء فأصبحت المدرسة غوغاء من الخوف والهلع، كانت الشاشات تبثُّ الخبر وتُعيده وتَستعيده حتى سرت اتصالات بين أهالي مدارس أخرى فانتشر في البلاد جوّ من القلق المرعب وتسمَّمت أجواء الدرَاسة في سائر المناطق، ليتبيّن بعد التدقيق أنه كيس عادي مهمَل لا متفجرة فيه ولا أية مادة خطرة. ولكن، في هذه الأثناء، كان الرعب انتشر في كل لبنان، وراحت بذورُه تتفاعل في خيال الأهل وتزرع في عقولهم شكّ أن يرسلوا أولادهم الى مدارسهم، وكيف؟ وماذا لو؟ وربما، وما الضمان؟ وما هي الإجراءات في كل مدرسة؟ وكل ذلك التوسُّع في الهلع بسبب خبر تسرّعت شاشات التلفزيون في بثه على الناس، ثم عادت فنفت الخبر وبثَّت بأن الأمر كله… كيس مهملات.
أعرف أن السبق الصحافي علامة الوسيلة الإعلامية (إذاعة، تلفزيون، وجريدة حين هو حديث أو معلومة تتفرّد بها دون سائر الصحف) ولكن الحاصل في هذه الفترة (والناس ينامون على رعب ويصحون على قلق ويعيشون نهارهم على هلع) أن السبق الصحافي أو الإعلامي (حين ليس مؤكَّداً) أصبح مؤذياً الناسَ والوسيلةَ الإعلامية معاً، حتى إذا تكرر الأمر خسرت الوسيلة الإعلامية مصداقيتها (كما يحصل حالياً في محطات لم تعُد وسائل إعلامية بل صارت متاريس لأصحابها أو لِمن تُمثِّل).
ومع تقديرنا لوسائل إعلامية تسارع الى طمأنة الناس حول خبر ينتشر، أو أصوات مفرقعات أو أسهم نارية، أو إشاعة كاذبة تسري في البلد فيَهدأُ بال الناس، نجد وسائل أخرى توغل في نقل تفاصيل أخبار لوجستية عسكرية وأمنية في صورة غير مهنية وغير مسؤولة فتؤذي الخبر عوض أن تنقله بأمانة صحافية، أو بأخلاقية إعلامية تتطلب الذكاء أكثر من الخبرة والتقْنية.
وإذا كانت مهمة الإعلام: نقل الخبر عند حصوله، وعلامة النجاح: تسجيل سبق (للإذاعة أو التلفزيون) قبل السوى، فبعض مهمة الإعلام الرئيسَة أن تتريّث الوسيلة في البث، وأحياناً أن تعتِّم عليه كلياً في انتظار التحقق منه أو من تفاصيله قبل أن تُرعب الناس بنبأ سرعان ما تعود فتكذِّبه أو تنفِيه أو تصحِّحه، بعد أن يكون الخبر بذر الرعب في قلوب الناس.
المهنيَّة الصحافية والإعلامية تقتضي أحياناً تعتيماً كاملاً على خبر يرى الصحافي/الإعلامي ألاّ يبثّه كما هو، لأنَّ في إخفائه عندئذ (كي تنضج ساعة بثه أو إعلانه) خيراً للخبر ولصاحب الخبر وللوسيلة الصحافية/الإعلامية وللناس، خصوصاً هذه الأيام التي يتسابق فيها الزملاء الإعلاميون/الصحافيون على “تحريض” رجل سياسة ضد آخر، بطرح سؤال، أو فضح معلومة، أو تأجيج صراع يَجْمُلُ بالإعلامي أن يُخفِّف من وطأته على الناس والوطن والوضع الدقيق المتوتّر.
هذا الكلام ليس وعظياً ولا نُصْحياً ولا مُحاضرة في أُصول المهنة، فليس بين الزملاء من يَجهل هذه الأُمور، لكنني أنقل نبض الناس! ومقولة “ما كل معلوم يقال” تثبِّتها مقولة أخرى “ما كل معلوم يقال في أيّ وقت”. فالتوقيتُ (نشراً أو إخفاءً) أهمُّ من الخبر، وأحياناً أفعل، وفي أحايينَ كثيرة ينقلب نشر الخبر وَبالاً على الجميع.
علامة الصحافي/الإعلامي الناجح: البحث عن السبق؟؟ صحيح. لكنّ بين السبَق الصحافي والتسرُّع الصحافي (بعضهم يسميه “غباء” ولا أتبنى الكلمة) مسافةَ ما بين النوايا والأفعال. والفعل أحياناً كثيرة يكون قاتلاً، حتى ولو كانت النية بريئة.