هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

491: حرمونا حتّى من الحلم

السبت 31 آذار 2007
– 491 –
التقَينا على الغداء ظهر أمس الجمعة بعد انقطاع عشرين عاماً لم نلتقِ خلالها لأنه لم يزُر لبنان. جاء من باريس لعيادة أمه المريضة وشقيقته التي كبر أولادها في غيابه، هو الطبيب الجراح في أحد أكبر مستشفيات باريس، وله براءات اكتشافات طبية، وله مؤلفات في جراحة العظم، وفي روزنامته ندوات دائمة ومحاضرات متواصلة حول العالم عن اكتشافاته الأخيرة.
غير أن العشرين عاماً لم تفصلْه عن لبنان الذي له في قلبه حنين جارف. فهو أنشأ أولاده الثلاثة على حب لبنان، ويأتي لهم دائماً بأفلام سياحية ومناظر وصوَر ويُخبرهم دوماً عن العقل اللبناني المبدع وبروز مبدعين في العالم لبنانيين أو من أصل لبناني.
“حلمي الأكبر هو لبنان والعودة إلى لبنان” قالها لي وهو يشلح نظره على الموجات المنفقشة أمامنا في المطعم البحري الهادئ. وأردف في مرارة: “مطلع الصيف الماضي قررنا، زوجتي الفرنسية وأنا، أن نشتري بيتاً في لبنان يكون مقراً لنا ولأولادنا، غير بيت أبي الذي ولدتُ فيه وربيتُ فيه وغادرتُه قبل عشرين عاماً. ولم نكد نحزم حقائبنا حتى وقعت حرب تموز فتأجل المشروع. ولدى مرض أمي ومجيئي الاضطراري أمس إلى بيروت، اتفقنا، زوجتي وأنا، أن أبحث عن بيت قديم في الجبل نرمّمه ونأتي إليه حين نعود إلى لبنان مرحلياً ثم (من يدري؟) نهائياً فنحقق هذا الحلم الرائع بالرجوع إلى لبنان. ولكنني، بوصولي إلى هنا، ومتابعتي ما يجري من تجاذبات سياسية وعنادات مواقفية وكيديات من كل طرف، واستعدادات لتركيب أجهزة تكييف في خيام المعتصمين، واستعدادات لمواقف متصلّبة من الحكومة والموالاة، واستعدادات لمواقف متشنجة من المعارضة، واستعدادات لذهاب لبنان بوفدين متنافرين إلى مؤتمر قمة واحد، أرى أن الحلم لن يتحقق قريباً. فلنبقَ حيث نحن، وليكبر أولادي بعيداً عن هذه الغابة الفالتة”. وختم: “حَرمُونا حتى من الحلم بلبنان، والعودة إلى لبنان”.
شقيقته التي معنا إلى الغداء واصلَت بدمعتين مقهورتين: “إبني ينهي في حزيران دراسته الثانوية، ويرفض الالتحاق بجامعة هنا، يريد التخصص في الخارج، لا ضعف إيمانٍ بجامعات لبنان بل فقدان إيمان بوضع لبنان. وحين رجوته أن يتريّث في قراره سألني عن ضمانة لمستقبله في لبنان إذا هو تخصص هنا وتخرَّج من هنا ويريد أن يعمل هنا”.
وساد بيننا صمت طويل، كان يخترقه هدير أفكار تتماوج بحرقة ومرارة، وأصداء أصوات الناس من الإذاعات والتلفزيونات يصرخون “كفى أيها السياسيون” وعبارات من بعض السياسيين أنفسهم يصرخون لزملائهم أن “قفوا وقفة ضمير وأنقذوا لبنان وشعب لبنان من هذا المهوار الذي ننحدر إليه بسببكم”.
هلع لدى الشعب، هلع لدى فريق من السياسيين، هلع لدى رجال الاقتصاد والمال والمصارف، هلع لدى رجال القطاعات السياحية والفندقية، هلع لدى الطلاب الذين يتخرَّجون بعد أسابيع، هلع لدى الأهالي الذين يربّون أولادهم ليجدوا أن لحظة انتظار الفرح أصبحت لحظة القهر في انتظار إقلاع طائرتهم من المطار إلى وجهات هيهات أن يعودوا منها، ومع ذلك، مع كل ذلك، يجد فريق واسع من السياسيين كل وقته بالتنقُّل من زيارة يعقبها تصريح، إلى موقف يعقبه تصريح، إلى قرار يعلنه تصريح، إلى تشدُّد يفجّره تصريح، إلى مشاركة تلفزيونية “عنترية دونكيشوتية” في برنامج “توك شو” سياسي، وهم آخذون وقتهم، آخذون كل وقتهم، كأنّ البلد بألف خير والاقتصاد بألف خير والسياحة بألف خير وموسم الصيف المقبل علينا بألف خير، وعندهم كل الوقت كي يستمتعوا بأسمائهم يومياً تتكرر عشرات المرات من الإذاعات، وبوجوههم تطل كل ليلة مراراً وتكراراً في نشرات الأخبار وبرامج الـ”توك شو”، حتى أن اللبنانيين (وخصوصاً الطلاّب) لم يعودوا يسمعون يومياً إلا أسماء السياسيين وتصاريح السياسيين ومواقف السياسين، فيواجهونها بـ”ما يناسب” من عبارات الغضب والحقد والقرف والشتائم.
ولن أذكر هنا عيَارات شتائم صديقي الطبيب ظهر أمس الجمعة.