هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

432: في فضاء شوقي شمعون

السبت 26 تشرين الثاني 2005
-432-
إلى أين يأخذُنا شوقي شمعون في معرضه (شبه الاستعادي) الجديد (حتى آخر هذا الشهر في مركز “كوكب الاكتشافات” بمحاذاة الستاركو وبتنظيم من غالري “إيبروف دارتسيت”) وهو يدعونا الى مجموعة صالات تَهنأ فيها لوحاتُه على مساحاتها الأوسع؟
الانطباع الأوّل أنه يدعونا الى “فضاء” (في 106 لوحات) تنفلت فيه اللوحة من إطارها المحدود الى عمقها اللامحدود، خصيصة لا يؤتاها إلاَّ قلائل أصحاب المواهب الاستثنائية في أخذ المتلقِّي الى العمق لا الى مجرد الحدود الأفقية أو العمودية (وهي خصيصة تنطبق على الشعر والموسيقى والنحت، حين يأخذ المبدع متلقّيه الى عمق غير منظور ولا يتركه في مسطَّح المنظور).
الانطباع الثاني أنه يفاجئنا في الحجم، وهو من زمان (منذ كنا نجلس عند زاوية من محترفه في نيويورك) كان يحلم بإيجاد مكان رحب وسيع تستطيع فيه لوحاته الكبيرة (تصل الى 230 سنتم) أن تتنفَّس فيه على وسع مداها تعليقاً على الجدار ومدىً مسافِياً للمتلقي كي يستطيع أن يقرأَها عن تَراجُعٍ كافٍ لاستيعاب وَسَاعتها وحجمها وبُعدِها الثالث (العُمق).
الانطباع الثالث أنه يجرؤ. فلوحته لم تعُد مقتصرة على ريشة يغطُّها في مَلْوَنِهِ (زيتيةً كانت الألوان عليه أم مائيةً أم أكريليكاً أم خليطاً كلاسيكياً) بل يتجاسر على اعتماد الباطون أو الفايبر أو المعادن من أجل أن تكون اللوحة واقعاً افتراضياً ينحو الى افتراضٍ تشكيلي واقعي، فتعطي هذه التوليفة “صدمةً جمالية” تكثر فيها الأسئلة وتشُحُّ الأجوبة، والفن العالي (شِعراً، موسيقىً، نحتاً، رسماً، مسرحاً، …) ما كان سؤالاً مفتوحاً للمتلقِّي تتعدَّد أمامه الأجوبة وكلما تعدَّدَت اغتنى الفن بإضافة جديدة.
الانطباع الرابع أنه أشرف عالياً على أغصان العالَمِية من جذعه اللبناني (انتماءً) وجذوره اللبنانية (ثقافةً تشكيليةً غير منغلقة) فإذا في لوحاته سهل البقاع (لايتموتيف دائم لديه) وإذا فيها سطوع شمس لبنان وثلج لبنان وأثير لبنان ونكهة لبنان الألوان والظلال ومذاق الطبيعة الفريدة من دون أن يرسم لنا (بالقاموس الانطباعي الأفقي) شجرةً وارفةً أو بيتاً ذا قرميد أو شارعاً ظليلاً أو عجوزاً ذا شاربين ويلبس الشروال التقليدي. الطبيعة اللبنانية في لوحاته عطر لا رائحة، ملامح لا معالم، مناخٌ لا جغرافيا. والمرأة عنده بدأت شكلاً ثم راحت ترِقُّ ترِقُّ ترِقُّ حتى آلَت الى أن تصبح خطاً رقيقاً نسيميّاً رائع الشاعرية.
بِهذه الأربعة الانطباعات (وسواها من روافدَ تَنجم عنها) لا يسلك شوقي شمعون خطاً مشقوقاً قبله يسير عليه ببغاوياً أو انسيابياً بل يمضي في لوحته (خطاً مغايراً وقاموساً تشكيلياً ذا طبعات منَقَّحة باستمرار) نحو ترسيخ (وربما الأصح أن أقول: تأسيس) لوحة تشكيلية لبنانية/عالَمِية ليست طِرحاً (بأسلوبها المزروع في أرض سواها ولا تعترف بها أرض سواها) بل متجذّرة (لوناً وملامحَ ورُقشاتٍ لونيةً وإيحائيةً رمزيةً شفيفةَ التعبير) في أرضها الأُم لكنها بنت العصر الفتيّة الصبيّة المعتنقة الجديد في العالم بدون أن تَعرى من وفائها لجذورها التي هي، لا الأزياء المستوردة، تعطيها دمغةَ الأصالة وتالياً عالميةَ صاحبِها الوفيِّ لأصوله.
ومثلما، في تاريخنا التشكيلي المشَرِّف، كرّسنا كبارَنا جيلاً مؤسساً أوّل وجيلاً مؤسساً ثانياً (وما ومن صدر عنهما من تشكيليين ونتاج تشكيلي من دون أن نسِم كل مبدع أو نتاج بالنَّزعة “التأسيسية”) هكذا يمكن أن نُدرج اليوم شوقي شمعون (لا في جيله واحداً من الأبرز في جيله، فهذه بداهة) بل رائداً (في قاموسه) مؤسِّساً (في لُغته) طليعياً (في مضمونه والشكل) ليكون تأسيسياً لمرحلة ستأتي، منذ لوحته، حاملةً أحدث حصائل الغرب (لا غرب الموضة بل التقنية) وطالعةً من أرض لبنان عابقةً في فضاء لبنان سنابلَ تشكيليةً غنيّة الثقافة، واضحة الانتماء، وخصوصاً: أصيلة الولاء والوفاء.