هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

429: تلويحة إلى صُور من “سيدي بو سعيد”

السبت 15 تشرين الأول 2005
سيدي بو سعيد – تونس -429-
– من هناك دخلَت إليسا خليج تونس على رأس أسطولها الـمُبحر من صور.
وأَشار فؤاد شَمّام بيده الى أفق بعيد تراءى لي من شرفة منزله التي يتكسر الموج تحتها مباشرة عند مطلٍّ جميل من بلدة “سيدي بو سعيد”. تطلّعتُ الى ذاك الـ”هُناك” صوب صور، فبدت لي فتحة بين رأسَين (رأس بون ورأس الجبل) كأنهما حارسا هذا الخليج الكبير الذي دخلتْه إليسَّا، إليسَّانا بنتُ صور لترسو عند شط مدينة ستبنيها على مساحة جلد ثور وتسميها “قرطاجة” (صور الجديدة). وزيارة الخليج ومرفأيه الفونيين مؤثرة لأنها معاينة المكان الذي جعلت منه إليسا أُسطورة في البطولة والوفاء.
نودّع فؤاد شَمّام ونغادر واحته المطلّة على فتحة في الخليج توصلنا الى صور، ونتمشى في شوارع “سيدي بو سعيد” المخصصة للمشاة يذرعها السياح متنسّمين ريحةَ التاريخ وحكاياتٍ وأجيالاً تترى وجوهاً وملامحَ بين بيوت عتيقة نظيفة مصبوغة جميعها بالأزرق (البحر والسماء) والأبيض (نور الشمس). ويتبسّط بالشرح مشكوراً “سعادة السفراء” شكري عبود الذي ليس هنا سفير لبنان وحسب بل ورشة لبنانية لا تهدأ و”دينامو” شبكة علاقات في تونس دبلوماسية ثقافية اجتماعية و”أعمالية” فإذا به سفير الدولة اللبنانية والثقافة اللبنانية والعطاء الذي يعكس عن لبنان الفكر والحضارة صورته الأنقى والأبهى.
نتغلغل بين سيَّاح “سيدي بو سعيد” (20 كلم شمال شرق تونس العاصمة) فنبلغ “المقهى العالي” أو “مقهى الحصائر” (“كافيه دي ناتّ”) الشهير برواده: أندريه جيد، هنري دو مونترلان، أنطوان دو سانت إكزوبري، جورج برنانوس، بول كلي، سيمونّ دو بوفوار،… وسواهم ممن عرَّجوا على هذا المقهى فكتبوا فيه أو منه أو عنه وشهروه. ولعل أبرزهم أندريه جيد الذي كتب فيه على الحصائر فصولاً من كتابه “القوت الأرضي” (1895) وذكر المقهى بالاسم.
ندخل المقهى. حصائره (المنسوجة من قصب) رمز شهرته. على كل حصيرة جلس الرواد يحتسون الشاي بالنعناع. فوجئتُ ألاّ أرى على جدران المقهى ذكْراً لأشهر رواده وهو المعروف بـ”مقهى الأدباء والفنانين” ويستقطب سنوياً آلاف السياح الذين يقرأون عنه في المناشير والموسوعات وصفحات الإنترنت ما عرفَت تونس كيف تسوّقه مَعْلَماً سياحياً شهيراً في واحة “سيدي بو سعيد” (وهو أبو سعيد بن خلف بن يحيى التامني الباجي الذي سكن تلك المنطقة فحملت اسمه).
نطلُّ على تُخوم “سيدي بو سعيد” فتبدو المنارة من بعيد، وتتراءى تخوم قرطاجة وبقاياها ومدارجها ومرافئها الفونية، وحولنا سيَّاح (بلَغوا هذا العام ستة ملايين في مجموع واحات تونس السياحية) يعاينون الحرَف اليدوية الشعبية ويكملون الى مشارف الشط النظيف المصان. وفي زواريب “سيدي بو سعيد” أتذكَّر أسواقنا العتيقة في زوق مكايل وجبيل وصيدا وصور غير المسوّقة سياحياً كما يجب، ولو عززت دولتُنا وزارة السياحة (كما تونس هنا) لاجتذبَت إلى لبنان حتماً عدداً أكبر من السياح.
في شوارع “سيدي بو سعيد” المؤهلة سياحياً ينعصر قلبي على واحات عندنا فريدة لا نعرف كيف نؤهِّلها لتكون نقاط جذب سياحي وأتذكر قول المؤرخ ميشليه: “في الأماكن التاريخية ليس المهم رؤية المكان كما كان بل الإحساس به” وقول سانت إكزوبري: “المهم هو الإحساس، والإحساس لا تراه العين بل يشعر به القلب”. وهنا مَجدُ واحاتنا التاريخية والسياحية في لبنان.