هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

414: جديد في لبنان: بيتهوفن بالعربية

السبت 2 تَموز 2005
-414-
الأمسية الختامية (الأربعاء أول من أمس) للأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية كانت مطلعاً لا ختاماً، بما أتته من جديد يضاف الى الوسط الموسيقي في لبنان، وتالياً في المنطقة. فإدخال النص العربي على الهيبة الأوركسترالية السمفونية جديدٌ يسجّله لبنان في إرثه الحضاري المعاصر، مسجِّلاً بذلك سابقةً إذا تعمَّمت تكون مدخلاً الى عهدٍ جديد من الغناء الأوبرالي والأداء المسرحي، في دمج الإلقاء بالغناء، والنص العربي بالنص الأصلي الذي اعتاد الجمهور اللبناني سماعه بالفرنسية أو الإنكليزية أو اللاتينية. وما كان جمهورنا اللبناني يأْلفه في الكتيبات بين يديه يتابع فيها نصوص “الآريا” الأجنبية، عاينه الأربعاء الماضي بين يديه في نصوص بالعربية لا أُنكر الرهبة التي اعترتني وأنا أنقلها عن الإنكليزية والفرنسية (من الألمانية) لجرأة التجربة وجديدها.
النص الأصلي (الألماني) من تراجيديا “إغمونت” النثرية التي وضعها غوته سنة 1788 عن مأْساة البطل إغمونت المناضل الذي ثار ضد حكم ملك إسبانيا فيليب الثاني لأنه احتل البلدان الْمنخفضة (المعروفة اصطلاحاً بـ”هولندا”) وأمعن فيها تنكيلاً واستبداداً، وجعل عليها نائبه دوق ألبا فاعتقل إغمونت (خوف قيامه بانتفاضة الثورة) وسجنه في إحدى زنزانات بروكسيل. لم يثُر من البلجيكيين أحد للدفاع عنه إلاّ صبيّة من الشعب (كلارا) تعلّقته فزارته في سجنه حيث باح لها بِحبّه فكلّفه هذا البوح موته شهيداً في السادسة والأربعين من شبابه. ولأن بيتهوفن كان عاشق الحرية والثورة والنضال، أحَبّ مسرحية صديقه غوته فوضع لها الموسيقى والألحان (سنة 1810) وراجت كإحدى أكثر سمفونيات بيتهوفن تعبيراً عن مثاليته البطولية الثورية.
جمهورنا تابع ألحان هذا العمل مع الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية (بقيادة هاروت فازليان) بغناء السوبرانو ليلي دراغومير (بالألمانية) لكنه تابع نصوصه بالعربية في إلقاء احترافي متقَن مع إلفيرا يونس (كلارا) بأدائها الإذاعي العالي وحضورها الواثق، ومع رفعت طربيه (إغمونت) بأدائه المسرحي إلقاءً وحضوراً، فتذوّق الجمهور موسيقى بيتهوفن وألحانه في “جوٍّ لبناني”.
الخطوة جريئة صادمة تضاف الى رصيد وليد غلمية الذي له فضل تأسيسي كبير على أكثر من صعيد: إنهاض الكونسرفاتوار اللبناني من رماد الدمار الى مؤسسة كبرى للتعليم الموسيقي العالي في كل لبنان، إنشاء الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية، إنشاء الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية، إنشاء عدد من الأوركسترات الفرعية لموسيقى الحجرة، إنشاء روزنامة دورية شبه أسبوعية لجمهور لبناني يتابع أمسية واحدة على الأقل في الأسبوع من تلك الأوركسترات، وهذا الآن رصيد جديد له في التأسيس لنص عربي يصاحب الأوركسترا السمفونية (بعد محاولات أولى غير سمفونية في الخمسينات والستينات لكنها لم تستمرّ) فيكون لبنان، مرة أخرى، رائداً في هذا الجديد بين دول المنطقة، وسَبّاقاً كعادته في بادرات فردية تعود عليه بالسمة الريادية التي هي، منذ عقود، سمة لبنان.
هذه البادرة الرائدة قد تكون خطوة أولى نحو دخول جمهورنا بالعربية (وربما باللبنانية أيضاً) عالم العباقرة الكلاسيكيين في الموسيقى، فإذا أعمالهم الموسيقية وألحانهم لمشاهد مسرحية أو أغنيات في أوبرايات يشاهدها الناس في بلدانهم بِلُغات بلدانهم، تصبح في متناول جمهورنا اللبناني الذي بات مهيَّأً لها (منذ خطوة هذا الأُسبوع) في ظاهرة قد تكون مقدمة لنشهد قريباً على أحد مسارحنا الكبرى عملاً كاملاً بالعربية، ملحناً كاملاً من لبناني، ومؤدّى كاملاً من لبنانيين، فيسجِّل لبنان به سَبَقاً أوركسترالياً كلاسيكياً غنائياً يكون أول حجر أساس في صرح الأُوبرا بالعربية.