هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

403: سهرة معهم في الخيام

السبت 16 نيسان 2005
-403-
كان الليل انتصفَ في قلب بيروت، وقلبُها لا يزال ينبض كأنه في منتصف النهار! ها هي بيروت عادت إلى بيروت بعدما أحيَت مع اللبنانيين ذكرى ثلاثين عاماً على 13 نيسان، خارجةً من ذاكرة الماضي إلى ذاكرة المستقبل.
العشاء لدى أحد مطاعم الأرصفة في العاصمة الجميلة كان شهياً مرتين: أُولى لأن أناقة المطبخ اللبناني باهرة القيافة، والأُخرى لأن عجقة الناس في شوارع وسط بيروت ضاهت “فيا فينيتو” و”مونمارتر” و”سنترال بارك نيويورك”.
وكان لا بُدّ من المغادرة إفساحاً في الطاولة لمن كانوا لا يزالون يتوافدون كأننا في أول السهرة. وكان اقتراح بأن نزور خيام المعتصمين المُسالمين حول تمثال الشهداء. ودخلنا نتنقّل في باحة الخيام، فكان المشهد أبلغ من كل كلام.
شباب في ربيع العمر، من كلّ لبنان، من جميع مناطقه وطوائفه وتشكيلاته السياسية، يعملون في النهار (كلٌّ في مؤسسته ومكتبه ومصنعه ومدرسته وجامعته وصنعته وحقل اختصاصه المهني أو الجامعي) ويعودون ليلاً فيلتقون في الخيام ويُمضون قسماً من السهرة في خيمة، وقسماً ثانياً في خيمة ثانية، وينتقلون من خيمة إلى خيمة، حاملين معهم وِحدتهم الواضحة وإيمانهم الواحد وكلمتهم الواحدة ومطلبهم الواحد: الحقيقة.
ولم يكن يضيرهم ظرف النوم (في الهزيع الأخير من الليل) هُم الآتون من بيئةٍ بعضُها مستريح مرفَّه وبعضها الآخَر أقلّ أو أكثر، طالما أن الهدف الذي يجمعهم بات أبعد من ظرف النوم والطعام والراحة والاسترخاء، كي يظلوا على استنفارهم الحادّ من أجل أن تنقشع غيوم سوداء تظلِّل الوطن ومصيره ومسيرته.
كانوا يتسابقون للتعبير عن حماستهم وإصرارهم على البقاء حتى تُشرق شمس الحقيقة ويتبيّنوا طريقهم: إلى أين؟ وبدا معظمهم واعين تماماً ما كان عليه آباؤهم قبل ثلاثين عاماً حين “تَمَتْرَسُوا” في معسكرات متقابلة متنافرة متناحرة، على أصداء مواقف أخذهم إليها “بيت بو سياسة” من زعماء الحرب و”لوردات” الحرب وتُجّار الأرواح والشعوب في الحرب، وحفنة سياسيين مستسلمين ومستزلمين لخارج لبنان من كل اتّجاه ومشَرب وسفارة، وخلفهم تسير فصائل الشعب اللبناني منادية بنداءاتهم وشعاراتهم ومصدّقة ما يصرّحون به ويحاولون إقناع الشعب بعملهم “في سبيل لبنان”.
اليوم، بعد ثلاثين عاماً (وتصادف زيارتي أسبوع ذكرى الثلاثين واحتفالاتها) تغيّر الأمر كثيراً. بل تغيَّر كلياً. اليوم أصبح الشعب هو في الطليعة والقيادة، والسياسيون يتْبَعون ويتَّبِعون، وكلما صرّحوا أو كانوا على مقاربة قرار، أعلنوا أنهم لم يعد يمكنهم القرار والتقرير والاستقرار عكس ما يريده الشعب الذي قال كلمته “مليونيّاًً” بعنف حادّ.
صحيحٌ أنّ شباب الخيام كانوا من مراوح تشكيلات سياسية وحزبية وعقائدية مختلفة، لكنهم جميهم يجمعهم لبنان اللبناني القرار، المستقِلّ الحكم والقرار، لا ريح عربية تشدُّه ولا ريح غربية، بل وحدها وحدها ريح لبنان اللبنانية بما تحمله من خير لشعب لبنان ومصيره اللبناني ومستقبله اللبناني غير المعزول عن بيئته إنما غير المرتهن لأحد في بيئته ولا في العالم.
وبين من يحمل الصليب في عنقه ومن يحمل القرآن، بين من جاء من أقصى البقاع ومن جاء من أقصى عكار ومن جاء من أقصى الجنوب الذي نريد تحريره حتى آخر شبر من مزارع شبعا، أمضيتُ سهرةً مع شباب لبنان كانت حافزاً كبيراً لي على زيادة إيماني بشبابنا خميرة نقية صافية لمستقبل لبنان.