هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

394: “نداء القلب” يغيب “إلى الأبد”

السبت 12 شباط 2005
-394-
كانت تجمعنا، مساء كل سبت، في صالونها الفسيح من بيتها المطل في زوق مكايل على خليج جونية، فنتحلّق حولها، أدباء وشعراء وأصدقاء، حتّى إذا اكتملت الحلقة، بادرت: “إقرأوا لنا من شعره”. فنروح نقرأ لها من قصائد “نداء القلب” و”إلى الأبد” لالياس أبو شبكة الذي كتبهما فيها.
نقرأ لها من قوله لها:
كل حيّ يموت، إلاّ هوانا
أعَلى الأرض من يُحبُّ سوانا؟
نحن والناس، نملأ الأرض حباً
وهُـمُ… يَـملأونَها نيرانا
ونقرأ لها من قوله فيها:
أقول لقلبي إنها الصدق في الهوى
وفي قلبها حبّ لغيرك ما خفقْ
ويا شعراء الأرض ما أصدق الندى
إذا ابتسمت ليلى وما أكذبَ الورق
ونقرأ لها من قوله عنها:
أنتَ يا ربّ ما خلقتَ جمالاً
مثلها في الملائك الأنقياء
أنت يا ربّ ما خلقت نساءً
مثل ليلى نقية الأحشاءِ
نقرأ لها، ونعيد القراءة مساء كل سبت، وهي تصغي في صمت بعيد، منخطفة إلى هناك، إلى ذاك الزمن الذي كانت فيه عروس شعره وكان شاغل حياتها، حتّى إذا انتهينا من القراءة، “عادت” إلينا من هُناكها، وتمتمت: “كم كان يعرف أن يحبّ”.
وفي ترددي عليها إلى جلسات ثنائية، تروح تحكي، في انخطفافها نفسه، عن تلك الذكريات وظروف كتابة بعض القصائد ومناسبة هذا القول أو تلك التلميحة في بعض الأبيات، طالبة إليّ، بما وضعته بي من ثقة، ألاّ أنشر هذه المعلومات على حياتها، وفيها إضاءات كثيرة على حياة الياس أبو شبكة، كما فيها تفاصيل طلبت مني ألاّ أنشرها أبداً.
هذه الـ”ليلى” (“ليلي” كما نعرفها) الوفية على حجم وفائه لها وشعره فيها الناضح بالوفاء، غناها الياس أبو شبكة بأنقى ما يكون الشعر عن أنقى ما يكون الحب.
هذا الوفاء النادر توفيق يوسف عواد حين زارها صيف 1950 (بعد ثلاثة أعوام ونصف العام على غياب أبو شبكة) ووجدها لا تزال لابسة عليه الحداد، فكتب قصيدته “ذات الوشاح الأسود” (موجودة في كتابه” من حصاد العمر”)، ومنها:
وشاحها الأسودُ… يا ليلةُ
غارت على الأفق دراريها
سكرى بما تعصُر من قلبها
في أكؤُس من عهد ماضيها
صماء تصغي بانخطاف إلى
أغنية… مات مغنّيها
وجميع رفاق أبو شبكة كانوا يعرفون حبه الكبير، فكتبوا عنه بعد غيابه (في 27/1/1947) وشددوا على وفائه لليلى كأندر ما يكون العشاق الأوفياء. وها هي بقيت بعده ثمانية وخمسين عاماً على ذاك الوفاء العجيب الذي تبادلاه في حياتهما القصيرة (دام حبهما سبع سنوات 1940-1947) وبقي هو حياً فيها حتّى أيامها الأخيرة.
وإذا كان هو قال فيها ذات يوم:
كأنك شطر من كياني أضعتُه
ولَمّا تلاقينا اهتديتُ إلى أصلي
فلعلّه، يوم غاب عنها، غاب على أمل أن يكون شطره سبقها إلى “هناك”، وها شطرها اليوم غاب، على أمل أن يهتدي الحبيبان في “هناك” آمن عن ألسنة النمامين وعيون العذال الحاسدين.
ومع غيابها (الخمسين، أول من أمس) يكون “نداء القلب” غاب “إلى الأبد”، ومعه غابت قصة حبّ يندر أن تجسّد مثلها امرأة كانت ذات يوم شريان الحياة في حياة شاعر.