هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

393: حين السفير يُهدي من تراث بلاده

السبت 5 شباط 2005
-393-
كان من ميزات السفير فؤاد الترك (وما أكثر ميزاته) أيام خدمته سفيراً في عواصم العالم الكبرى، أن يغتنم كل مناسبة في البُلدان التي يُمثّل لبنان فيها، ليقدّم إلى مضيفه أو مكرّمه هدية من لبنان، كانت غالباً أدباً (“النبي” لجبران أو أي كتاب لبناني آخر في لغة يقرأها المضيف) أو فناً (لوحة فنية أو أسطوانة لبنانية) أو نماذج لافتةً من التراث الحرفي اللبناني، معتبراً أن هذه الهدية تبقى لدى المتلقّي في مكتبه أو داره أو سفارته ضوءاً بهياً من لبنان وذكرى غالية من سفير لبنان.
ومع خروج فؤاد الترك من الخدمة الفعلية (اليوم رئيس “منتدى سفراء لبنان”، وهل تستفيد الدولة من خدمة من لَمعوا من هؤلاء السفراء؟) لم يغادر مكاتبه في السفارات ليصبح “سفيراً سابقاً”، بل ما زال يزرع في جيل السفراء الجدد مبادئ القيم اللبنانية وكيفية مبادراتهم (وما أكثر تلامذته بينهم) إلى تنصيع صورة لبنان حيث هم.
من سفرائنا الذين يبادرون على هذا النمط: سفيرنا في تونس شكري عبّود (بدأ حياته الدبلوماسية على يد السفير الترك في الأرجنتين) إذ رأى أفضل ما يرفعه إلى الرئيس التونسي، وهو يقدّم له أوراق اعتماده الدبلوماسية، أن يقدّم له اعتماداً آخر حضارياً أبلغ دلالةً وأعمق ديمومةً: كتاب “قرطاجة ابنة صور”، أفضل رسالة إرث ووفاء من لبنان إلى تونس.
الكتاب (بالفرنسية) وضعه الباحث الثقة في التاريخ والآثار الدكتور حارث البستاني، والطبعة أنيقة لائقة (ساهمت بإصدارها مؤسسة عصام فارس وبرعاية شخصية منه)، والنص (130 صفحة قطعاً كبيراً مع صور توثيقية وتاريخية وحديثة) يعالج الموضوع من جذوره: لمحة عن الفينيقيين، صورة القرطاجي الفينيقي في الغرب، صورة الفينيقيين أركان الاقتصاد والتجارة في العالم القديم، لمحة عن خطة إليسّا وما تركت من أثر في أذهان الأبطال والشعراء وقصص الحب، شريط ممتع عن الفينيقيين والقرطاجيين، النظام الانتخابي في قرطاجة، ظهور هنيبعل بين البطولة والأسطورة، قرطاجة بين الفرس واليونان، وختاماً: قرطاجة بين نهايتها “ملكة البحار” واستمرارها في الذاكرة بلوغاً إلى نهضتها الحديثة اليوم.
ولا يغفل المؤلّف اللبناني جداً (أليس ابن الكبير فؤاد افرام البستاني؟) ما كان لتونس من فضل في اطلاع العبقري ابن خلدون “أول مفكّر مسلم أرسى القواعد الحديثة للعلوم الاجتماعية والتاريخية”، وما بين تونس ولبنان من وشائج علمية (كان الحبيب بو رقيبة، باني تونس الحديثة، يطلب إلى الطلاب التونسيين الالتحاق بالجامعة اللبنانية قبل تأسيس الجامعة التونسية) ومن وشائج أدبية (انفتاح تونس على أعلام من لبنان كأحمد فارس الشدياق واسكندر عمون وخيرالله خيرالله وسواهم)، معتبراً أن الرئيس التونسي زين العابدين علي يقود بلاده بحكمة ورؤية وحزم صوب التوازن والعصرنة كي تدخل بلاده القرن الحادي والعشرين متوّجة بصدارة الجسر الحضاري بين الشرق والغرب.
وبهذا الأثر الذي يواصل “أواصر لم تنفصم مرة بل تتوثّق أكثر بين لبنان وتونس” (كما ورد في مقدّمة السفير فؤاد الترك للكتاب) يكون شكري عبود لا مجرّد سفير لبنان في تونس، بل سفير التراث اللبناني في بلاد تشهر اعتزازها بأن تكون قرطاجتُها ابنة صور الفينيقية. فمرحى بوفائها وأصالتها القرطاجية، ومرحى بسفير نتمنى أن يتمثّل به سفراء لبنان كي لا يكون عملهم دبلوماسياً وظيفياً إدارياً وحسب، بل حضارياً على مستوى ما في لبنان من إشعاع حضاري موزّع، بصيغة أو بأخرى، على بلدان العالم.