هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

368: كي لا يلفحنا جميعاً حكم الرعيان

السبت 7 آب 2004
-368-
“لا أريد الإساءة الى أحد، لكنني لا أُريد الإساءة الى الحقيقة التي يجب أن نَعلَمَها ونُعلِنَها. هذه قصة غير قابلة للتصديق، لم تَحدُث ولا يمكن أن تَحدُث، ولا تنطبق على بُلداننا المترَفَة السعيدة، ولا على شرْقنا الْمُتَنَعِّم بالحرية والعدالة”.
بهذه السخرية السوداء يفتح منصور الرحباني الستارة (مساء الأربعاء المقبل في قصر بيت الدين) على مسرحية “حكم الرعيان”، أربعَ ليالٍ من عمله الجديد الذي يغرز فيه مبضعه الرحباني مستأْصلاً واقعنا بكل عُريه وتداعياته.
والْمتتبِّعون أعمال الأخوين رحباني (من “جبال الصوّان”، الى “ناطورة الْمفاتيح”، الى “الشخص”، الى “يعيش يعيش” الى “ناس من ورق”، …) وكانوا يؤخذون بالْحدس الرؤْيوي يتحوّل إسقاطاً على واقعٍ لبناني (وربما عربي) راهنٍ، أو على مُجريات لاحقةٍ كان أضاء عليها الْمسرح الرحباني قبل حُدوثها، سيؤخَذون هذه الْمرة أيضاً بقلم منصور يأخُذهم الى وجعهم، ويَحمل لهم مرآةً تعكس واقعهم، في سخرية سوداء وهزءٍ حادّ مغلّفَيْن بِجماليا مشهدية وعذوبة لَحنية وتوليفة حوارية مسرحية بات منصور الرحباني خبيراً نادراً في نسْجِها عمَلاً متكاملَ الشكل والمضمون والرسالة.
ولعلَّ من عناصر صيرورة الأعمال الرحباني (مع الأخوين ومنذ 1988 مع منصور) كلاسيكيةً تبقى صالحةً للبثّ والإعادة والاستعادة، أنها لا تتأَطّر في آنيّة حدوثها، وتالياً تبقى معصومةً عن الدخول في أرشيف النسيان فور انتهائها عن الخشبة. من هنا أن العمل الرحباني، حتى وهو مستَلٌّ من وقائع التاريخ (“فخر الدين”، “زنوبيا”، “صيف 840″، “ملوك الطوائف”) يظلّ مشحوناً بالنبض الوطني والشعبي والشاعري والْحدسي الرؤيوي الذي يبقى نابضاً إسقاطُهُ على العصر.
هكذا، بين وطن كَرْمْستان (الذي “في قديم الزمان، وبعدو لَحَدّ الآن”) وبين الْملك رعد الثالث خان (وما أكثر أترابه في حكم البلدان) والْمعّاز سعدون (وما أكثر معّازي الرئاسات في الدول)، والْجارية ستّ الْحسن (وما أكثر الْجاريات الْمتحكّمات بأصحاب القرارات في العالم) نسج منصور الرحباني مسرحية “حكم الرعيان” في حبكةٍ على طريقته الْمعهودة، وصياغةٍ في سياق خطٍّ مسرحي رحباني بات مألوفاً لدى الْجُمهور (نَفَساً ومعالَجَةً وتركيبةً حوارية وغنائية) لكنه يظلُّ نضِراً في جديده، ولو انّ مناخَه العام يدخل متلقّيه في جـوّ يَخاله الْجمهور من الْمألوف.
وإذا مطلع الْمسرحية “لا تناموا يا زغار… واسهرو يا كبار” وخاتمتها “بس يا ولاد… كل واحد عَ بيتو”، فبين سهر “الولاد” وشيطناتهم ولهوهم بـ”كرسي الْملك” الذي “طار” فطار معه الذي على الكرسي، رسالة رحبانية قاسية: “طارت الكراسي واللي عَ الكراسي، ونحنا ملهيّين، وحكّامنا ضايعين بلعبة الْمصير… انتبهو على الوطن، كمان الوطن بيطير”. وبين هذه الْخاتمة وخاتمة “ملوك الطوائف” شَبَهٌ لا ينفكُّ يتجدَّد كل عام في دول هذه الْمنطقة التي ظلّت ترفض “الاستعمار” حتى تغلغل الاستعمار في غرف نوم حكامنا اللاهين عن الفعل (أو الْمتواطئين له) والْجادين في القول بالرفض الذي جعل اليهود يسرحون ويمرحون في أجزاء لنا استباحوها، وأجزاء ينوون أن يستبيحوها، وقد ينجحون طالما حكم الرعيان يتناسل من جيل الى جيل، وكل جيل ينشأ يرضع ديماغوجيا الحكي ولا ينتقل الى فيلولوجيا الفعل.
فرادة منصور الرحباني أنه، في “حكم الرعيان” كما في سابقاتها ولاحقاتها (ولو في أُطُر تبدو متشابهة لكنها بنت الواقع الرتيب الْمتشابه)، يشير بِحدْسه الى هذا الفالِج.