هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

352: بين عودة شفيق عبود وعودة جبران

السبت 17 نيسان 2004
– 352 –
خمسة وخمسون عاماً في باريس ولم يحمل الجنسية الفرنسية. أصرَّ أَلاّ يحمل إِلاّ الجنسية اللبنانية. وهكذا جبران: ستة وثلاثون عاماً بين بوسطن ونيويورك، ولم يحمل الجنسية الأميركية (تكتب ماري هاسكل) وأَصرَّ أَلاّ يحملَ إِلاّ اللبنانية.
جبران، خلال جلسة صافية في محترفه، قبل وفاته بأسابيع، قال لصديقه ميخائيل نعيمة: “أُمنيتي، يا ميشا، أن أزور وادي قاديشا قبل أن أموت. أريد أن أموتَ هناك لا في هذه الأرض الغريبة”. وشفيق عبُّود، خلال مهاتفة في محترفه مع صديقه عبدالله نعمان (الأديب اللبناني العائش منذ ثلاثين عاماً في باريس ملحقاً ثقافياً في سفارتنا اللبنانية) قال قبل ثلاثة أسابيع: “إذا مُتُّ هنا، يا عبدالله، وصيَّتي أن أَعودَ الى بلدتي المحيدثة وأُدفَنَ هناك”.
في جميع لوحات جبران والكثير من كتاباته، ضوءٌ في عينيه بعيدٌ بقيَ على أهداب ريشته ونبضة قلمه، آتياً من أطياف بشري ووادي قاديشا ونور لبنان. وفي لوحات شفيق عبُّود “أطياف قديمة من المحيدثة وتذكارات ومشاهد لم تفارق ريشتَه طوال حياته، و… “ضوء آتٍ من عندنا، من هناك، من لبنان (…) فالتجَذُّر والانتماء مولودان فينا ويظلان حيَّيْن فينا” (مقال منى نعيم في “لوموند” 13/4/2004).
وذات غروب من 1975، في جلسة جَمَعَتْنا معاً (شفيق عبود وعبدالله نعمان وأنا) في حديقة اللوكسمبور، قال لنا شفيق: “أمشي كل يوم من محترفي (الدائرة السادسة) الى هذه الحديقة، بين البانتيون العظيم ومجلس الشيوخ، ولا ألْتقط شعاعاً واحداً من ضوء، لأن نور لبنان طاغٍ في مخيّلتي وعينَيَّ. وحين أعود لأيام قليلة الى لبنان أَعُبُّ خميرة لونٍ لأيام طويلة، وأعود” (العبارة نفسها تماماً قالتها لي هلن الخال في واشنطن عام 1990 حين سألْتُها عن ألوان الضوء المشرقة في لوحاتها. وربما هذا ما كان يَجْرُشُ في تأمُّلها وهي واقفةٌ بين الجمع أول أمس الخميس خلال مأتم شفيق عبود في المحيدثة).
في 10 نيسان 1931 توفي جبران في مستشفى سانت فنسنت في نيويورك، و(بعد 73 عاماً تماماً) في 9 نيسان 2004 توفّي شفيق عبُّود في مستشفى باريسي. غريبان في أرض غريبة، غابا بعيداً عن وطنٍ أحبّاه طوال حياتهما، حلما بالرجوع إليه نهائياً، ولم تتحقق لهما تلك الرغبة إلاّ والنورُ مطفأٌ في عيونهما.
قبل انتقال جثمان شفيق عبُّود الى بيروت، تلاقى جمع ضئيلٌ (13 نيسان) من أصدقائه في بارك مونسوري (أدونيس، أسادور، عبدالله نعمان، …) لنظرة وداع أَخيرة. وفي كنيسة سيدة لبنان (بوسطن 7 آب 1931) تلاقى جمع ضئيل من أصدقاء جبران (بينهم ماري هاسكل وشقيقته مريانا) لنظرة وداع أخيرة. جثمان جبران وصل الى مرفإ بيروت بدون استقبال رسمي، وعلى تابوته (في كنيسة مار جرجس المارونية) وضع ممثل رئيس الجمهورية وسام المعارف “من الدرجة الثانية”، وجثمان شفيق عبود وصل الى مطار بيروت بدون استقبال رسمي (إلا حضور وزير الثقافة الشخصي)، وعلى تابوته (في كنيسة السيّدة الأرثوذكسية – المحيدثة) وضع ممثل رئيس الجمهورية وسام الأرز من رتبة فارس.
كبيران من لبنان عاشا في وطن مستعارٍ وفيهما شعّا عالمياً، وحين عادا الى وطنهما الذي حلما طوال حياتهما بالرجوع إليه، كان في استقبالهما الأصدقاءُ والفنانون لا أركانُ الدولة الذين لا يحضرون إلاّ لاستقبال الرسميين أو جثامينهم.
ذات يوم كان احتفالٌ في باريس (1997) لنقل رفات أندريه مالرو من مدفنه المؤقت الى البانتيون، وكان في مقدمة الحاضرين (على قلّة حضوره العلني وقلّة منحه رعايته) رجلٌ عميق الصمت والتهيُّب، اسمه… جاك شيراك.