هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

324: رُكَّاب الصَّفّ الأول

الثلاثاء 30 أيلول 2003
– 324 –
دائِماً يصلون متأخّرين قليلاً أو مبكّرين قليلاً. الْمُبكِّرون كي يستلحقوا مقعداً فارغاً في الصف الأول قبل أن تَمتلئ مقاعده، والْمُتَأَخِّرون كي يراهُم الْحفل وصلوا، خصوصاً إذا هم بين ذوي الْحظوة من”ركّاب” الصف الأول.
وإذا كان من الطبيعي أن يفرض البروتوكول مقاعد في الصف الأول للرَّسْميين من الْمدعوين، وبشكل أخص لِمُمثّلي الرئاسات في الدولة (وهذا عُرْف عام)، فليس طبيعياً، بل أحياناً يكون كاريكاتورياً، أن يصل مدعوُّون يفرضون أن يِجلسوا في الصف الأول، لشعورهم الباطني (والطاووسي) أن شيئاً من مقامهم ينخفض إذا جلسوا في الصف الثاني. وكم تَـتَـعَـبْـقـر الْحجج الكاريكاتورية فَجأةً لديهم لتبرير ذلك بأنّهم يُمثلون هذا الْحزب أو هذه الْمؤسسة أو تلك الوزارة أو تلك الشخصية، الى حجج أخرى غالباً ما تسقطهم صغاراً من أعين الْمستقبلين.
وهذا “الْمَرَض” الطاووسي الاجتماعي اللبناني يتكرَّر في معظم الاحتفالات، ويَحسب له منظِّموها ألف حساب، فيحتاطون بعدد من الكراسي في ركن مَخفي، حتى إذا “داهمهم” أحد ركاب الصف الأول، جاؤوا بالكرسي و”حشروه” في زاوية أو في ناحية أو في قفوة، أو في أي مكان آخر (مش مهم) شرط أن يكون في الصدارة من الصف الأول، وأن يظهر في عدسة الْمصوّرين أو في إطار كاميرا التلفزيونات، ثم ينصرف بعدها مباشرةً.
وقد تبلغ الوقاحة ببعض هؤلاء من ركاب الصف الأول، فلا يكتفون بأن يصلوا متأخرين، بل يَحرصون لدى وصولِهم أن يُحيُّوا أصدقاء ومعارف من بعيد، أو يتواقحون أكثر فيصافحونَهم باليد واحداً واحداً في الصفوف الأمامية، فيما على الْمنبر خطيب يقرأ كلمته، يتجاهلونه ويَتسبَّبُون بفوضى في الصالة حتى ينـتهوا من الْمصافحات والتحيات ويَجلسوا هانئين مُسْـبَطرّين مُـتَـكَأْكِـئين في مكانِهم الْمنشرح من الصف الأول.
وغالباً ما يكون هؤلاء أكثر الْحاضرين وقاحةً في عدم إطفاء أجهزتِهم الْخلوية، فتروح هذه ترنُّ وسط الاحتفال، مزعجةً كل الْحضور، لا يشعرون بالْحرَج أن ترنّ فيتناولوها بكل صلافة وثقل دم ووقاحة مضاعَفَة ويُجيبوا بصوت نصف مرتفع، وأحياناً عادي الارتفاع، حتى تتركَّز عليهم العيون مشمئزة والأفواه شاتِمة، فيما هم مسترسلون في الْمهاتفة غير آبِهين للخطيب على الْمنبر، ولا متنبِّهين الى أسنان تصرف جميع طبقات حرف “السين”.
وأحياناً يكون لِهؤلاء أن يُقفلوا عائدين غاضبين مستنكفين عن البقاء، إذا لَم توفّر لَهم صبيّة الاستقبال مقعداً في الصف الأول، شاهرين في وجهها صوتَهم التافه أن “اعرفي مَن أنا قبل أن تستقبلي الناس”. وحين تكتشف الصبية لاحقاً صاحب الـ”مَن أنا”، تفرح أكثر لأنّها فعلت كذلك لأن هذا الْجهـبُوز ليس غالباً من ركاب الصف الأول.
سيَجيء وقتٌ يَـبحث فيه منظِّمو الاحتفالات في لبنان عن قاعات عريضةٍ تَـتّسع صدارتُها لصف واحد من عشرات الْمقاعد تكون جميعها في الصف الأول، إرضاءً للذين (عدا من يفرضهم البروتوكول الرسْمي) يهرولون الى الاحتفالات جاهزي الْملبس والْمظهر وتصفيف الشعر والأناقة الكاريكاتورية كي يكونوا من الْمَحظـيِّـين بين “ركاب الصف الأول”.