هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

315: قاموسنا الإعلامي واللغة المعلوكة

السبت 26 تَموز 2003
– 5 1 3 –
صحيح أنّ الإعلام ليس مُجرّد مرآةٍ للأعمال والأعلام، بل يكون أحياناً موشوراً يتشظّى بالصُّوَر والإيْحاءات والأضواء أوسع من مساحة الْخبر، وأحياناً هو كاليدوسكوب يعتِّم هنا ويضيء هناك في إيقاعٍ مدروس. غير أنّ هذا كلّه من الْمضمون، ويبقى الشكل الذي يتقولب فيه هذا الْمضمون: يكون ذكياً يَخترق الْمتلقّين بِحجة إقناع ذكية فيتلقونَه فيبلغ هدفه، أو يكون بليداً بكلماته وصياغة أخباره وقاموسه الأدائي والإلقائي والنَّبْرَوي فيشيح عنه الْمتلقُّون ويكون جهده ضاع مهدوراً.
وهذا الأخير هو الْحاصل اليوم في معظم الإذاعات والتلفزيونات (الصحافة الْمكتوبة أقل انْجرافاً بالقاموس البليد الْمتداول). فلا نشرة أخبار إلاَّ وتتكرَّر فيها البلاداتُ التعبيرية نفسها، منقولة من مذيع الى آخر، ومن كاتب نشرة الى آخر، حتى تقرف آذاننا من كلمات وتعابير معلوكة، منها: “جولة أُفق”، “بالصورة الصوتية”، “على خلفية”، “على وقع”، “على إيقاع”، “على ضوء”، “في غُضون ذلك”، “هذا… وقد”، “حيث” (والْمقصود “حين”)،…
وتقرف آذاننا من تكرار القول نفسه يبدأه الْمذيع في مقدمة النشرة، ثم يعيده الْمندوب في مقدمة الْخبر، ثم يعيده السياسي خلال الريبورتاج، حتى ينفر الْمتلقّي (وليس مُخطئاً) فيَمُجّ الْمقدمة والْخبر والسياسي معاً.
كما تقرف آذاننا من الْجُمل الطويلة التي يبدأها الْمذيع بفعل “قال” (مثلاً) ويروح في جملة طويلة مطاطة تفصيلية يضطر بعدها الى إعادة فعل “قال” حتى تستقيم جملته الطويلة بتذكير الْمتلقي كيف بدأها.
وتقرف آذاننا من لغة هجينة لدى الْمراسلين في تقاريرهم، تَجيء فصحى مَمسوخة (فقليلُهم فصيح ومعظمهم جهلة لغة وقواعد وتشكيل)أو تَجيء عامية مَمجوجة، لا هي عامية تَماماً ليستسيغها الناس ولا هي فصحى عادية يَفهمونَها. فليس أزعج من مندوب يقول “هذا والْجدير بالذكر إنو قد إِجَا الْمسؤول وصرح بأنَّهُ إذا بتكون القضيه مش هكذا، فمش رح يقدر أن يوافق عليها بتاتاً” (حرفياً كذا، من إحدى نشرات الأخبار التلفزيونية مؤخراً).
وتقرف آذاننا من اللغة الباروكية البائدة التي يستخدمها مُعِدُّو النشرات ومذيعوها من طراز “طقس مُمطر فوق بعبدا وطقس يَميل الى الصحو فوق قريطم وطقس متلبِّد بين الصحو والْمطر فوق ساحة النجمة”، وهو أسلوب منقرض مَمجوج متحذلق من عصر الانْحطاط لَم يعد مقبولاً في عصر الْمباشرة والاختصار والاختزال والإنترنت.
كما تقرف آذاننا من “تأْجيج” إعلامي مزعج عند أقل تباين في وجهات النظر بين اثنين من الْمسؤولين، فيتبارز الإعلاميون في بدء نشراتِهم بـ”تطمين” الْمواطنين أن ذينك الْمسؤولَين “اجتمعا” أو “قد يَجتمعان” أو “ابتسما” أو “تصافحا” أو “خفَّت حدة التوتر بينهما” أو “من الْمحتمل أن ينعقد مَجلس الوزراء” أو “من الْمتوقَّع أن تُثمر الْمساعي تبريد الأجواء مِما قد يساعد ربّما على احتمال عقد جلسة مَجلس الوزراء”، … الى آخر هذا التسابق في تأجيج رخيص يُؤَرِّق الْمواطنين ويزيد توتير أعصابِهم وقرفهم من جميع هؤلاء الْمسؤولين والإعلاميين معاً !!
إعلامنا اليوم في سقوط قاموسي: يتصحَّح أو فالْهاوية أخطر مِمَّا في الظن.