هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

277: ساعاتٌ بيضاء في رُبوع السويداء 2/2

الاثنين 4 تشرين الثاني 2002
السويداء – 277 –
في الطريق الى قَنَوات يسبقنا الْحديث عن الـ”ديكابوليس” (الْمدن العشر القديْمة: بيت شآن، سوسيّة، أم قيس، طبقات الفحل، عمّان، جرش، أدونة، قنوات، دمشق، آبـيلة) وأهَمّيتها في العصور السحيقة. وإذ نبلغ “معابد قنوات” (“كاناثا” بِمصطلَحِها الروماني القديْم)، تطالعنا لافتة على الْمدخل: “أسّسها الرومان (القرن الثالث ق.م.). بنوا فيها معبد زوس (إله السَمَوات)، معبد نيفيوم (إلَهة الْمياه)، معبد هيليوس، وحَمّامات لافتة. انضَمّت الى تَحالُف “ديكابوليس”. ازدهرت أيام الأنباط (القرن الْميلادي الأول). بنى فيها الغساسنة صروحاً (كنائس، معابد، أديرة). تَحوّلت (القرن الْميلادي الثالث) مركزاً أُسقفياً وواحة حَج وأكبر مركز ديني مسيحي. استولى عليها العرب سنة 637. فيها مزار النبي أيوب. مركز إقامة شيخ الدروز الأكبر”.
نتَجوّل فيها: أعمدةٌ باقية ذاتُ تيجان رائعة الزخرفة، معبد كبير لا يزال مذبَحه سليماً تَحوطه ثلاثة عروش نصف دائرية، وراءه باحة نواويس سليمة النقش والْهيكل، بقايا مسرح مهيب، بقايا أقنية مائية، قاعة مَحكمة، برج مراقبة، جرن عِماد، بقايا بازيليك ضخم، بقايا سور (طوله كيلومترين بِعلو 25م.) كان يربط مداخلَها الأربعة. كانت مَحطة رئيسة على “طريق الْحرير” (حلب، دمشق، شهبا، قنوات، بُصرى)، لكن فيليب العربِي اختصر الطريق (شهبا، بصرى) فتهمّش دور قنوات وفقدت أهَمّيّتَها. غير أنّها لا تزال الى اليوم ماثلة الْحضور الْمهيب بين رومانِي ومسيحي ونبطي وغساني عربِي وتوحيدي درزي، ولا تزال على مدخلها كروم العنب وبساتين التفاح تستقبلك وتودِّعك تاركةً في بالِك حكاياتٍ من تاريْخٍ غالباً ما تعكسه بِصمتها الدهري دوالي العنب ومرايا التفاح.
الى أين بعد؟ الى شهبا، مدينة الأمبراطور (الروماني) فيليـبُّس العربي، أسس فيها مدينة “فيليـبُّوليس” (244-249) كان قائد حرس البلاط فانقلب على غورديانوس وتولى العرش واحتفل (248) بالذكرى الألفية لتأْسيس روما. اهتَم بِمدن الإقليم العربِي. ولَم نستطع أن نرى من شهبا إلا بقايا البوابتَيْن الكبرَيَيْن للمدينة العريقة القديْمة.
ومن هناك الى بُصرى، بُصرى أسكيشام، بُصرى الْجمال الْهيلينيستي النادر في الْمعمار القديْم. تَحت كل خطوة، تتردّد أصداء الْحضارات والشعوب والْمراحل (مركزٌ رئيسٌ للقوافل على طريق الْحرير، عاصمة الإقليم العربي أيام الأنباط في القرن الْميلادي الأول،كرسي أسقفي إقليمي، كنيسة ضخمة في القرن السادس، نقطة تَحوّل كبرى مع الفتح الإسلامي، واحة صليـبية مركزية في القرن الثاني عشر، …)، وقبل تلك وبعدها: هيـبة تاريْخ ومَجد وأصالة. ولا يقل عن هيـبة الْمدرج الفريد، إلاّ وقوفك على مسرحه وتصويتُك بنبرة عادية تروح تتردد في أرجاء الْمدرج فتـبلغ الْجالس فوق، في الْمقعد الأعلى، واضحة مسموعة بدون تكنولوجيا العصر في مكبِّرات الصوت.
في طريق العودة الى السويداء، كان لا بُدّ من الْمرور في “قريّا” (بالراء الْمفتوحة والياء الْمُشَدَّدة) بلدة أبي طلال سلطان باشا الأطرش. دخلنا بيته “الْمضافة”، تُحيط بنا صور كبيرة له في مواقف مُختلفة، تَجمع بينها مَهابة وجه صارم، وشاربين معقوفين كطلَّة نسر، وعينين ثاقبتين كثورة متأهّبة، وسيف ناشب من غمده كأنَّ له صوتاً يُجلجل باسم الْحق والشعب والكرامة. وبِخروجنا من “الْمضافة” وقفنا برهةً عند الضريح، الساكن الساكت تَحت بلاطة تغطِّي جثمان البطل الذي قال للفرنسيين “لا” وَدَحَرَ الْمحتل بِثورةٍ هي من أسطع ما تروي بطولات التاريْخ.