هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

262: في ديار ديك الجن

السبت 27 تَموز 2002
حمص – 262 –
في حِمص يأْخُذُكَ الْجو فوراً الى الشعر. الى ديك الْجن وجنونه بِحبيبته ورد، الى ثلاثي الرابطة القلمية نسيب عريضة والشقيقين عبدالْمسيح وندره حداد، الى والي حِمص أبي فراس الْحمداني الذي نقل الْمخْلِصون رفاته من صدد (حيث قُتِل) الى حِمص قبالة القلعة التي كانت له مقرَّه، فأقاموا له نصباً فوق القبر لائقاً بشاعريته ومقامه.
وفي حِمص أنتَ في مِحور بينها وبين طرطوس، بينها وبين حلب، بينها وبين اللاذقية، بينها وبين دمشق. وفي الطريق إليها يلفتُني رفيق الدرب والرحلة والشعر والصداقة شوقي بزيع الى أَشجارها الْحانية بسبب الريح الغربية التي تضربُها، هي الواقعة في مَجرى فَجوةٍ بين جبال عكار وجبال اللاذقية، ويقطف شوقي (كعادته في التقاط الْهنيهات الْجمالية) شِعراً من منظر الأشجار وهي حانيةٌ أبداً، في حنانٍ مرةً وفي شجن مرة، حتى لَهْي حِمص “العديّة”.
الْجو في حِمص شعر بامتياز. نادراً ما تلتقي من ليس شاعراً أو راوي شعر. وزاد الْجوّ شعراً مهرجانُ “رابطة الْخريْجين الْجامعيين” (الرابع والعشرون في تاريْخ هذه التي تأسست عام 1961، وتعتز بأنّها أول مؤسسة ثقافية خاصة في سوريا)، وهو بيْن سلسلة نشاطات تقيمها شعرية وتشكيلية وفكرية وموسيقية ومسرحية وثقافية منوعة. وفي خَمس ليالي الْمهرجان، تأَلّق شعراؤه الضيوف، ولكن كذلك تأَلَّق شعراء حِمص وكانوا أكثرية نوعية.
وفي حِمص تتوهج الصداقات، تستقبلُك كأنّما أنت الْمقيم الْمدلّل بالْحفاوة: الدكتور الْجرّاح بدر السمّان، الدكتورة سَمَر زهراوي، الدكتور عِماد الأتاسي، الدكتور منذر الْحايك، ويَحتفي أركان “الرابطة”: الدكتور ياسر حورية، مُحمد ديب الزهر، يوسف حنون، فكأن “الرابطة” مكان لك ترتاده ويَحتفي بك من دون مرة أُولَى.
وبين سائر الْجولات على حِمص، يتمهَّل مستضيفوك عند منعطف: هذا حي الْميماس. هنا في بساتينه الوسيعة الظليلة ملتقى ديك الْجن وحبيبته ورد (كانت تعيش مع أُمّها العاملة في الدير)، وهنا نَما حبه لَها حتى الْجنون، وحتّى إذا بلغته وشاية (كاذبة ترجيحاً) عن إمكان زواج ورد من أحدهِم، قتلَها طعناً في صدرها، غيرَ مدركٍ أنّه في اللحظة نفسها كان يقتل نفسه، إذ هو غرق في الْحزن والغَم واليأس والْجنون، وهام على وجهه من وَلَهٍ وضياع، وقال أجْمل شعره وأغزره في تلك الْمرحلة الأخيرة من حياته.
من حِمص، تَمتدُّ بنا الرحلة الى حَماه. نترجّل من دون أرض، لأن عيوننا شاعَت الى فوق، الى دواليب دهرية كبيرة تَحمل الْماء من النهر الى فوق، فوق، لتفرغَها في قناة تنقلها الى أقنية فرعية كي تسقي بساتين الْمدينة. نقترب، نستفسر. يشرح لنا الأصدقاء الْحمصيون في شغف وحَماسة. يلفحنا رذاذٌ لبناني: فهذا النهر أمامنا هو “العاصي” الآتي من لبنان. وفي مقهى “الأربع نواعير” يتناهى إلينا صوت فيروز منساباً على العاصي فيزدادُ الألقُ شعراً أمام الناعورة التي تتلازم والطاحونة في تراثنا العريق.
ولا نغادر حِمص دون وقفة خشوعٍ حافية في جامع “سيف الله” خالد بن الوليد، الذي لَم يكن شاعراً لكنه لا يزال حتى اليوم ملهم الشعراء، فارساً ساطع الْحضور في مطالع القصائد.