هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

252: عبير من أيام الزهر

17 أيار 2002
– 252 –
بـأيّما حزن وقهر قالت لي شاعرتُنا فينوس خوري غاتا (نزيلة باريس وكانت ضيفة “الأوديسيه” قبل أَشهر في “مهرجان الأرز الشعري الثالث”) إنَّ شعر الغزل بات اليوم مَمجوجاً في فرنسا، لأنه معتَبَر “رخواً ومائعاً وضعيفاً، يتجنّبه الشعراء كي لا يقعوا في جهنم النقاد والتنظيريين”.
طبعاً لا تعليق على هذا الكلام أبسط من هذه القماشة القصديرية النحاسية التي تتحكّم اليوم بـشعر فرنسا واستطراداً أوروبا والغرب عموماً، بعدما، قال، صار التعبير عن الْحب “رخواً ومائعاً وضعيفاً”، وإذا بالبديل قصائد جافة حديدية قاسية تعالِج مواضيع بالكاد يتسع لَها النثر، وبالكاد تتحمَّلها صفحات التحليل النفساني.
في مقدمة “نشيد الأناشيد” (الذي أعاد أنسي الْحاج كتابته بلغته الشاعرية الْجميلة) قال أنسي: “ها هي الْحكمة تستسلم الى الْحب. فكم هو شابٌّ (هذا الكتاب) وكم هو نادرٌ منذ أعتق الكلام على الْحب”.
هذا لنقول إن الْحب، أقدم الكلام وأول الكلام، يظلُّ جديداً في كل وقت، إذا امتشقه فارس شعر ماهر أو خيّال نثْر بارع، حتى ليأتي على قلمه أحدث الكلام في أول الكلام.
نقول هذا، بعد قراءة “أيام الزهر”، جديد د. أنيس مسلّم، الكاتب الأنيق الأهيف، الْمتمكّن من الكلمة والصورة وتقنية البيان، في هذا الكتاب الطريّ البث، النقي العبارة، الْمصقول الأسلوب حتى النحت الْمرمري، الْمشبوب العاطفة حتى لَهي نضج مراهقة نظل نَحتاجها حتى في أواخر أيام الشيخوخة.
وتزنّر الكتاب مقدمة طويلة في العشق والْحب وشعرهِما، هي بيْن أجْمل ما نقرأُ عن الْحب غير كتابة الْحب نفسها، لعمق ما توصل إليه الْمؤلف من تنظير عميق جعل نسيج كتابته طالعةً من بثّ ثقيف مؤصَّل، لا يتوقف عند حدود كلام الْحب، بل يأْتي من مصادر نفسية وأدبية وجَمالية تُصبح بَعدَها كتابةُ الْحُب ذاتَ بُعد آخَر. والْمقدمة، في مفاصل منها كثيرة، تعيدنا الى فلسفات الْحب التي شادت سور كبار شعراء الْحب في العالَم، من اليونان الى الفرس الى الصوفيين والغَزِليْن العرَب، حتى باهوا بأَنّهم تركوا لشعر الْحب قصائد خالدةً على الأجيال أقوى من الْملاحم البطولية والأعمال الْمسرحية والْمطولات الشعرية الفلسفية على أنواعها.
أنيس مسلّم، في كتابه الْجميل، وفي مقدمته النظرية العميقة، يعيدنا – وما أكبر فضله – الى ذاك الْمناخ الصحي بالذات، مناخ كتابة شعر الْحب والْمباهاة بكتابته على أنه الأخلد والأسْمى، ومناخ التخصص في شعر الْحب حتى ليضْؤُل إزاءه كل شعر آخر، لأن من يَجد في التعبير عن عواطفه شأناً “رخواً ومائعاً وضعيفاً” (كما يقول “صعاليك” الشعر في أوروبا من أن هذا النوع من الشعر هو “خارج العصر”) يبقى هو نفسه خارج العصر، وتَجرُفُهُ موجات التقلّب الآنيَّة الزائلة العابرة بيْن عصر وعصر، فيصبح قديْماً ما إن تطل موجة جديدة في عصر جديد، بينما شعر الْحب، إذا كتبه شاعر فـذ أو كاتب مبدع، يبقى فوق كل موجة، وأخلد وأبعد من كل عصر.
على هذه الثقة يعيدها إلينا في “أيام الزهر”، نُـحـيِّـي أنيس مسلّم.