هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

251: أوراق من مفكّرة طالب

10 أيار 2002
– 251 –
لا يزال الأدب الْحي (أو الأدب الذاتي أو الأدب الشخصي) يستأْثر باهْتمام القراء في العالَم، بيْن سواه من سائر الفنون الأدبية، لكونه الأكثر حَميمية بين الكاتب وصوت فكره، بين قلبه وقلمه، بين قلمه والورقة. وفي هذه الْحميمية ما فيها من إضاءاتٍ على الذات البشرية والنفس الإنسانية، لا يُمكن أن تظهر في الأدب الـ”غيري” أو الْموضوعي أو “الْمجهري” الذي يتناول – نقداً أو عرضاً أو تَحليلاً – أثراً أدبياً أو نتاجاً فكرياً.
ولا نزال ننعم حتى اليوم بكنوز إضاءات على شخصية جبران وحقائق منها، لَم تظهر في كتاباته (ولا حتى في رسومه ولوحاته)، قطفناها من معلومات حَميمة وصادقة وعفوية تركتْها لنا ماري هاسكل في دفاتر مذكراتـها الْحميمة التي، عند نشرها، كشفت جانباً لعله الأكبر الذي نبني عليه اليوم كي نقرأ جبران كما هو جبران.
هذا الأدب الْحي إذاً (وليسمح لنا الأخ بليز باسكال في مقولته الْمريضة إنّ الـ”أنا مكروهة”) هو الياطر الذي يبقى تَحت الْماء ولا يظهر، لكي تظهر السفينة فوق الْماء بكامل هيبتها واستقرارها.
في هذا السياق نقرأ جديد مـحمد علي موسى “أقباس من الزمن الْهارب”، وهي أوراق “من مفكرة طالب” حفظها الكاتب بيْن أوراق له تعود الى 1956، وكشف عنها اليوم فإذا فيها واحاتٌ من الأفكار (في سنّ تبدأ معها جنينية الأديب بالتكوُّن) بانت عند نشرها اليوم إضاءاتٍ على مرحلةٍ لا تنعكس على ما كان يفكر به صاحبها وحسب، بل تؤرخ لـمرحلة من أدبنا ومُجتمعنا في النصف الآخر من الْخمسينات فترةَ كان لبنان يتحرك صوب نَهضة ريادية على مُختلف الْمستويات هي التي أوصلته الى مرحلته الذهبية حتى 1975 عام اندلاع سنوات الْجمر.
الكتاب (عن “دار السلام”) يَختصره الكاتب بأنه “خواطر دونَها في وقتها على أوراق مفكرة (روزنامة)” ويضعُها اليوم بين أيدي الذين يرى فيهم “مستقبل الوطن ومستقبل الثقافة في الوطن”. ومن يعرف حرص الدكتور مُحمد علي موسى على الأجيال الْجديدة (عبْر مؤلفاته الكثيرة السابقة، وأخيْرُها جديده الآخر “نصوص مُختارة من مؤلفات مـحمد علي موسى للمطالعة والتأْليف الْمدرسي) يعرف كم يهدر في ضميره اللبناني ووجدانه الأدبي هاجس تسليم شعلة لبنان الْحضاري الى أبنائنا وأبنائهم من بعدهم.
وحسناً فعل الْمؤلف بأنه أبقى على وريقات روزنامته فصوّرها كما هي، للأمانة الأدبية والتاريْخية من جهة، وللحس التوثيقي الذي نَحتاجه كثيراً (بعدما سبقنا الغرب إليه) في حفظ كل ورقة، كل وثيقة، كل مسودة نص أو قصيدة، حتى تكون مادةً توثيقية تؤرخ للشعب أكثر مـما تؤرخ له الأعمال الْمطبوعة الْجاهزة الْمعلَّبة.
هكذا نذوق في الكتاب نكهة فترة تردَّدت فيها أصداء الياس أَبو شبكة وصلاح لبكي ومصطفى فروخ ونزار قباني وأحْمد شوقي وطه حسين وبطرس البستاني وفؤاد افرام البستاني، وأسْماء وأحداث أخرى سياسية ووطنية، تَمرُّ في هذه الأوراق الْمهمة التي كتبها طالب منذ يفاعته متبصر ناضج، هو من بات عليه اليوم من ريادة في أدبنا والتربية.
أيها الأدباء : إحفظوا أوراقكم الْحميمة، ولا تصغوا الى نصائح بليز باسكال.