هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

243: في حضرة آرام الأول

15 آذار 2002
– 243 –
كان الاحتفا ل تكريم الْمخرج برج فازليان، والْحضور فَرَحٌ في جو التكريم وخشوعٌ في هيبة صاحب الغبطة.
ثُم جاء دوره في الكلام ، يَختتم الاحتفال بالتوسيم . بقيت هيبته الصارمة ، لكن وجهه انفتح على أفق آخر، أفق أوسع، وهو يَخطب مرتَجلاً بفرنسية أنيقة بليغة، فيها صوت تبشير ثقافي وطني، وصدى واعظ غير عادي.
قا ل غبطته : “لا تقولوا إن برج فازليان فنان أرمني في لبنان . بل قولوا إنه لبناني من أصل أرمني” . ولَم تكد تبلغني هذه الصدمة البيضاء حتى أردف : “من أول واجبات الأرمن ، أن يعملوا على لبنانية لبنان” .
ماذا؟ كلام كهذا يقوله مرجع ديني أعلى ، وبـهذه البساطة التي تدخل القلب والضميْر؟ أضمرتُ أن أتشرّف بلقاء غبطته . فكان لي ذلك بعد أيام لأكتشف أن صاحب الغبطة مؤلف ومُحاضر كبير بالفرنسية والإنكليزية كذلك .
بُحت لغبطته بـما ساورني من سعادة ، وأنا أسْمعُهُ يتحدث عن لبنان في أمسية برج فازليان ، فابتسم بهيبة الكبار ، وقا ل ببساطتهم : “أين العجب طالَما هذه هي الْحقيقة”؟ وراح يردف بالبساطة نفسها : “حيْن خرج الأرمن من أرمينيا ، وجدوا في بلدان العالَم مَحطاتٍ ، لكنهم في لبنان وجدوا وطناً احتضنهم . في تلك البلدان عاشوا ويعيشون ، وفي لبنان استوطنوا . لبنان وطن ذو طابع خاص ، وطن غيْر عادي ، وليس بلداً يسكنه الأرمن”.
وقا ل غبطته : “لا خطوط تَماس بين لبنان والأرمن . نَهضة الأرمن خارج أرمينيا لَم تكن إلاّ في لبنان . في كل بلد وجدوا اقتصاداً وبنية تَحتية ، لكنهم لَم يَجدوا قِيَماً إنسانية كالتي وجدوها في لبنان فتلاقحت قيمه بقيمهم”.
وقا ل غبطته: ” كل أرمني يَحفظ هذا الكلام ويعمل بـموجبه ، ويعي أن واجبه الْمساهَمة في إغناء لبنان الْحضارة والقيم ، والانفتاح على الْحضارات والثقافات كي لا ينعزل فيضعف . وعلى كل أرمني أن يعي خصوصية لبنان في مُحيطه ، حضارياً وتاريْخياً وثقافياً وأخلاقياً وروحياً ، ويفهم أنَّ الأرمن، بعد الْمجزرة ، حقَّقُوا نهضتهم في لبنان ، وعليهم أن يَحملوا لبنان في قلوبـهم أينما يَحلّون ، جسراً حضارياً بين أرمينيا وبلدان الدياسبورا الأرمنية”.
وقا ل غبطته : “علينا جَميعاً أن نُحافظ على هذا الـ”إيتوس” اللبناني الروحي والأخلاقي، على هذا الْـ”جوهر الوجود” اللبناني الفريد في نسيجه وطابعه وإرثه التاريْخي العظيم ، وعلى انفتاح فيه هو دليل القوة والعراقة والتميُّز . ومن هنا دخول لبنان في العولَمة بسطوع ثقافي وحضاري ، يَجعله فاعلاً في العولَمة لا متلقياً حيادياً . البلدان الضعيفة التي لا تراث لَها ولا قيم حضارية ، تَخاف أن تبتلعها العولَمة، وليس هذا وضع لبنان”.
وختم غبطته بالْحقيقة الساطعة: “في وجدان كل أرمني أن يُحافظ على لبنانية لبنان ، وأن يكون سفيراً للبنانية لبنان في قلبه . وإذا التشرد من أرمينيا أخذ منه أرضه وسَماءه ، فلن يستطيع أن يأْخذ منه ما في قلبه . ليكن في قلبه تاريْخ أرمينيا ولبنانية لبنان ، هذه اللبنانية النقية الْمنفتحة على العالَم ، الأصيلة الْجذور ، والْخالدة خلود أرز لبنان”.
في حضرة الكاثوليكوس آرام الأول، سَمعتُ كلاماً عن لبنان لَم أسْمعه، بِهذه القوّة، إلاّ من سعيد عقل.