هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

215: سعيد تقي الدين… كاملاً

23 آب 2001
– 215 –
ذات يوم، اتصل بي نزار قباني مطمئناً، حتى إذا أخبرني أنه في بيروت، هرعت إلى سؤاله متى أراه وأين. لكنه عاجلني بأنه في “خلوة عمل” يراجع بروفات مؤلفاته الكاملة في طبعة واحدة يهيء لها سهيل إدريس لدار “الآداب” في عدة أجزاء. وبعد نحو أسبوعين اتصل نزار مجدداً وإذا بصوته يزقزق على الهاتف : “الآن أنجزت مهمتي. ستصدر مؤلفاتي الكاملة بإشرافي، لا أخطاء فيها ولا شكل مغايراً لما شئته أن يكون. الآن اشنرح صدري وارتحت”.
وذات يوم، قبلها بسنوات، اتصلت بتوفيق يوسف عواد طالباً زيارته في بحرصاف (بيته الصيفي) فاعتذر مستمهلاً بضعة أيام “كي أكمل مراجعة المجلد الكبير الذي سيحوي مؤلفاتي الكاملة. أريد ألاتصدر فيه غلطة واحدة”. وبالفعل، بعد أسابيع قليلة دعاني أديبنا الكبير إلى بيته الشتوي (قرب المتحف، واليوم مسحته الجرافات ليصبح “باركنغ”) واستقبلني بمجلد ضخم أنيق قائلاً باعتزاز غبطوي: “هذا أنا، كل أنا، في هذا الكتاب”.
وأظن نزار توفيق عواد، غابا عنا مغتبطين بأنهما عاينا على حياتهما مؤلفاتهما الكاملة صادرة بالحلة التي يرغبانها لها. فلا نغمة في قلب الأديب كرؤيته مؤلفاته مطبوعة كاملة أمام عينيه. وهي نعمة انحرم منها أدباء وغابوا فتولاها بعدهم أحد ذويهم أو أحد المقربين أو المهتمين. وفي حال فقدان هؤلاء جميعاً يؤول النتاج غالباً إلى تشتت أو تشرد أو فقدان. ويا هنيئاً للأديب الذي يحظى بعد غيابه بمن يجمع إنتاجه بين دفتين كي لا يؤول إلى ضياع.
سعيد تقي الدين (لم أعرفه شخصياً) غاب تاركاً أجزاء من كتبه صدرت على حياته، لكنه ترك صفحات كثيرة جداً بين أعمدة الصحف وفي أدراجه المتفرقة وبيوت أصدقائه. والأرجح أنه غفل عن معظمها لشدة ما كانت حياته صاخبة بالتنقل والأسفار والتحرك والاضطراب المكاني والزماني، ما كان يستقر في مكان ولا كان يتصالح مع زمان. كان بيته السفر ورفيقه القلم في ضباب سيكارة.
غير أن نعمة سعيد تقي الدين التي لم تكتمل على حياته، اكتملت بعد غيابه بفضل الأديب والصحافي الزميل جان دايه الذي “سعتق” (على وزن “كرس”) معظم حياته الأدبية للملمة تراث سعيد تقي الدين فإصداره. وها هو، بعد سنوات مضنية من الإصدارات الفردية، أصدر مجموعة سعيد تقي الدين الكاملة في 20 جزءاً (خمس مسرحيات، أربع مجموعات قصص قصيرة، ثلاث مجموعات قطع أدبية، جزءان للقطع السياسية، جزءان للمذكرات. جزءان للمسألة الفلسطينية، جزء للخطب، جزء للرسائل) بما مجموعه نحو 3800 صفحة، وجزء منفرد: “كتبوا عن سعيد تقي الدين” (208 صفحات) إلى خمسة أجزاء بحثية رصينة وضعها جان دايه عن سعيد تقي الدين.
ها هي إذاً 26 جزءاً من هذا المفرد “الكثير” الذي اسمه سعيد تقي الدين نشرها بمفرده جان دايه، ويتولى توزيعها وحده (524 510-03 أو 307 713-04) عملاً جباراً تعجز عنه دار نشر كبرى.
في زمن العقوق المالح، هذا الوفاء لسعيد تقي الدين تحية نهضوية يرفعها جان دايه بولائه الوفي، ويستحقها سعيد تقي الدين الذي كم افتقد الوفاء على حياته، فجاءه بعد غيابه من جان دايه على أنبل ما يكون الوفاء.