هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

178: في عيد الفتى التسعيني

الخميس 30 تشرين الثاني 2000
– 178-
(في 2 كانون الأول: يبلغ الدكتور نقولا زيادة الثالثة والتسعين)
هو في رحلاتنا الثقافية والسياحية أول المرافقين، وفي سهراتنا الاجتماعية أكثر المتحدثين (حيث لا تكون السهرة عنده فيكون أكثر الحاضرين نشاطاً وتحركاً)، وفي ندواتنا أول الواصلين وآخر المغادرين.
غير أن هذا، كل هذا، ضئيل أمام حضوره المنبري الساطع الطاغي المتوقد: ارتجال أنيق، سواء كان لمداخلة قصيرة أو لمحاضرة كاملة، صفاء ذهني عجيب لا يغيب عنه رقم ولا اسم ولا تاريخ ولا تفصيل، ذاكرة تسجيلية دائمة التوهّج ترقى إلى أقدم أيام طفولته، سرعة بديهة مذهلة في الكلام والإجابات، أناقة تعبير، انتقائية فطرية في الكلمات، حديث بلاغة وفصاحة لا يخطئ فيه ولا يلحن، سلامة في مخارج الحروف والتشكيل اللغوي، استطرادات جانبية محببة وطريفة تزيد من متانة تركيز الموضوع في السامع، قيافة في الملبس والمشية والجلسة، انسياب في الكلام حتى لو ان سامعه لا يراه على المنبر لظنه يقرأ لا يرتجل، تسلسل منطقي في ارتجاله متناسق الأفكار كما لو انه مكتوب بتؤدة وتخطيط وتنقيب وتنقيح، مع أن كلامه، إجمالاً، هو في مواضيع علمية دقيقة ليس فيها شطحات أدب ووجدان أو لغو كلام سياسي قد يقول كثيراً ولا يعني في النهاية شيئاً، توجه دائم لروح نكتة خفيفة الظل توجع لكنها لا تجرح، مقتضب في مداخلاته العابرة فلا يطيل حتى الملل، واضح في محاضراته الكاملة فلا يتعب سامعه من غموض وإرباك، يعرف كيف يتفاعل مع جمهور سامعيه فيخاطبهم كأنهم سامع واحد ويحترمهم كأنهم مئات، يتوتر عند أقل تعليق يزعجه أو أي لغط في القاعة جانبي يسرق الانتباه عن المنبر، ولا ينسى أبداً ميله إلى المرأة- وشبابه الدائم من حبه الدائم إياها- فيبدأ خطابه دائماً بـ”صديقاتي، أصدقائي”.
أما خارج المنبر، في الجلسات الخاصة، فمحدث ساحر، يعرف كيف يصغي كما يعرف كيف يتكلم: إذا كان الحديث لا يعجبه، يتكئ على عصاه، ويستلقي على النسيان خلف نظارتيه، ويغمض عينيه وإن ليس ينام. وإذا شارك في الحديث، فرض الإصغاء على الحضور، فلا يرتدع عن زجر من يتكلّم جانبياً، حتّى لهو النجم في كل حفل، والنديم إذا كان شراب، والسمير إذا كانت سهرة، والرفق إذا كانت رحلة، والشريك إذا كانت ندوة، والجليس إذا كانت حلقة، والصديق كل لحظة، بل حاجة لأصدقائه لأنه حضوره بينهم خفيف رشيق، لا يزيد عن وزن الفراشة.
وفيما تغيب عنا نحن تفاصيل وأسماء ووجوه، يظل هو متوقد الذهن، يتذكر من طفولته في الناصرة جارته أو عوني، والحرير في عـرس فؤاد عـطالله، وكـيف راح يـدور مع أمه من مستـشفى إلى مستـشفى بحثاً عن أبيه، وكـيف جاء إلى لبنان (1925) وجال في معظمه سيراً على قدميه مرتقياً جباله، هابطاً وديانه، نائماً في بيوت قراه وأريافه والمدن.
أما قيمته كاتباً ومؤرخاً وأستاذاً جامعياً وباحثاً ومؤلفاً، ففوق الكلام. حسبي هنا حديثي عنه صديقاً كبيراً.
نقولا زيادة، في يوم ميلادك، نتمنى لنا نحن عمراً مديداً، كي نظل نفيء لديك في ظلال سنديانتك المباركة.