هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

136: استغفاره على سرير موته

الخميس 17 شباط 2000
– 136 –
استغفر أبي، الذي ودعناه قبل ساعات، أن أجعل من موته مادة مقال أدبي. لكن قدر الأديب أن يقطف اللحظة حيثما تأتي، مزهوة بالفرح أم مبلولة بدمعة حزن مخنوقة في صمت القدر.
كم كنت أتمنى ألا أكون حاضراً. أن أكون تبلغت خبر وفاته، وأنا بعيد، في منآي الأميركي، إذن فلا أراه مسجى بدون حراك، ولا أتقدم كي أبوس يديه الباردتين وجبينه المثلج، أنا الذي نشأ على يديه المباركتين وتعلّم كرامة العيش من جبينه الوردي، حتى كانت مكالعي الأدبية تحتمي اجتماعياً بكوني ابن فارس زغيب.
كم كنت أتمنى ألا أكتب فيه وهو ميت، بعدما كان وراء معظم كتاباتي وهو حي، يقرأني ويدمع من اعتزاز، ولا يقول غبطته لي، بل لرفاقه وزواره. وأعرف منهم بالتواتر ما يقوله عني. فماذا ينفعه أن أكتب عنه اليوم وهو لن يقرأ ليخبر عني زواراً ورفاقاً سيقرأون هم ما أكتبه عنه ولن يخبروه أنني أبوس فيه لاهوت البسطاء الذين هم وجه الله!
يا خوفي أن يكون مات وهو لا يعرف كم أحبه، ويا خوفي أكثر أن أكون أنا لم أعرف أن أخبره كم أحبه، وأنا العارف تماماً كم كان يحبني ويغتبط بي، ولو لم يفصح جهاراً عن هذا الحب. أيكون أننا لا نعرف حقيقة الأحباب إلا بعد رحيلهم؟ أيكون أننا لا نعرف حجم مشاعر الأحباب تجاهنا، أو حقيقة مشاعرنا تجاه الأحباب. إلا بعد ألا يعود ينفعنا ولا ينفعهم التعبير عن هذه المشاعر؟ أيكون أن الحضور من تحصيل الحاصل فلا ننتبه له، حتى يصبح غياباً فيسكن فينا هادراً بالصمت، حضوراً قوياً مدى بقية الحياة؟
في وداعه الأخير، كنت واقفاً أمامه مخنوق الإحساس: أية علاقة لي بجثة، مصيرها بعد لحظات إلى صندوق بني يحمله شباب طيبون إلى حجرة صغيرة تحت القاعة التي شهد فيها تكريمي قبل سنوات، بدمعة اعتزاز حافية كانت تخونه أكثر مرة فيخفيها بابتسامته الحنون يرمقني بها من بعيد وهو بين الحاضرين!
وما الذي كان في هذه الجثة قبل أن تصبح جثة. حين كانت جسماً لأبي حياً نابضاً بالحياة، صوتاً وحركة ونشاطاً، على سلوك مثالي وصفات نموذجية في الوداعة، والبساطة والتواضع والتقشف، وتربية عائلة كبيرة بجهد فردي!
وجعي أنه يرقد الآن على أمتار مني، من مكتبي والبيت. وأنا في المكتب والبيت أفكر أن جثته تتفتت، وتذبل الزهور فوق نعشه. لكنه بي حي بكل الذكريات. إذا أخذوه مني جثة، فلن يأخذوا مني الذكريات.
وجعي أنني لم أذكره مراراً في أدبي. ذكرت أمي أكثر. لكنه، بحنانه العميق الصمت. كان يرضى، وربما بحدس أن موته سيكون لي مادة خاصة به لمقالة، وأعتذر منه أن أختصر حياته كلها فتنتهي مقالة في جريدة.
هل الحزن مادة أدبية؟ وهل يهمكم ما يعتلج في قلبي من حزن وأنا أكتب الآن؟ وهل من واجب الكاتب أن يشرك قراءه بحالاته الخاصة؟ أليس الحزن مساحة شخصية، تبقى في حميمية الانزواء للتفكير بها والاختلاء لكتابتها؟
إنه قدري. وأنها روح أبي ترافقني بعد اليوم. باعتزاز لن أراه. لأن الروح ليس لها، كالجسد، دمعة حافية.