هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

129: إلى أين… يا فجر الألف الثالث؟

الثلاثاء 4 كانون الثاني 2000
– 129 – واشنطن
الطائرة حطت في باريس. الطائرة حطت في واشنطن. كأنها السيارة بلغت بنا مشواراً بعيداً.
أقلعنا من مطار بيروت قبل ساعات. ها نحن في واشنطن. لم يعد للسفر طعم الوداع أو الوصول. لم تعد عندنا نكهة للمسافات. حقاً صارت هذه الكرة الكبرى ضيعة كبرى، نتنقل بين دساكرها من حي إلى حي، من “قاطع” إلى “قاطع”، من بيت إلى بيت، ونفقد لذة الاكتشاف، كأننا في المقلب الآخر، في “المقاطع” الآخر، في الطرف الآخر من الوطن نفسه. من لم يرَ هذه الأماكن “الأخرى” في الأفلام أو في مكتبة عامة، شاهدها في بيته من برنامج تلفزيوني أو فيلم فيديو، أو “سافر” إليها على جناح “الإنترنت”. أين المسافات بعد، ونكهة السفر؟
أي سفر وأية مسافات، وأنا طوال أسبوع في فلوريدا (حيث قبل خمس سنوات كان منآي المؤقت على بحيرة الليمون توجعني فيه الغربة وطول المسافات) كنت في بيت ابني صباح كل يوم أطالع “النهار” على “الإنترنت”، كأنني أطالعها في بيروةت، وأتابع يومياً برامج الفضائيات اللبنانية، كأنني من فراشي الصباحي في جونيه أتابع الأخبار والبرامج!
أسبوع كامل على بحيرة الليمون، لم أشعر بالغربة (كما منذ خمس سنوات)، بل كأنني “في القاطع الآخر” أقرأ صحفه وأتابع برامج تلفزيونه فلا أشعر بالـ”هجرة” ولا بالمسافة تفصلني عن لبنان.
أفكر بجبران الذي كم عانى من البعاد في زمانه. أفكر بالريحاني الذي، رغم بطء المواصلات على أيامه وطول المسافات المكانية والزمانية، قطع الأطنلنطيك أربعين مرة في الباخرة، فكيف لو كان الريحاني اليوم يواصل رحلاته الكوكوية بين الفريكة ونيويورك والدول العربية التي كان يزورها؟
مذهلة حقاً هيه “العولمة” التي تطل علينا مع انطفاء هذا القرن. صَغَر العالم مع تطور وسائل المواصلات، وضؤلت لحظة الدهشة مع تطور وسائل الاتصالات، وانتفت لحظة الوداع مع وجود “الخليوي” في الجيب، وبهتت لحظة الاستقبال مع قصر الوقت بين هاتف الإقلاع من المطار الآخر ولحظة الوصول إلى مطار الوطن.
كان الوداع حدثاً وكان الوصول حدثاً، واليوم لم يعد وداع ولا استقبال. لم بعد من مسافة بين الأمكنة. تقارب المسافات بفضل الإنترنت والبريد الإلكتروني والفاكس والهاتف البصري. تقارب الناس في العالم من بعضهم البعض، لكن بين القلوب المتجاورة مسافات لم تنكسر بعد. التكنولوجيا قربت المسافات لكنها لم تقرب بعد بين قلب الإنسان وقلب أخيه أو جاره الإنسان.
يا باباً سينفتح، بعد ساعات قليلة، على الألف الثالث: إلى أين؟ إلى أين؟