هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

92: سبحة الوقت والتنظير وعقل القرن 21

الجمعة 2 نيسان 1999
– 92 –
آخر ما رواه لي المفكّر اللبناني الأب إتيان صقر قبل غيابه الفاجع (26/10/1994) حادثة بليغة المغزى حصلت له في ألمانيا عام 1926.
يومها كان “بونا إتيان” يهيئ، في جامعة هايدلبرغ، أطروحة فلسفية صعبة ومعقدة عن الفيلسوف الألماني هايدغر، وبزم له، كي يواصل كتابته، أن يقابل هنريش غادامر (أستاذ جامعي مهم جداً في ألمانيا) واضع أكثر من دراسة عن هايدغر، وكان على علاقة وثيقة بالفيلسوف.
كان ذلك يوم الجمعة، حين طلب موعداً من الأستاذ فجاءه الجواب من مكتبه: “يلتقيك بعد ثلاثة أسابيع”. ووقع الـ”بونا” في حيرة: فموعد عودته إلى لبنان بعد أسبوع، ولم يعد يمكنه التأجيل لارتباطه بأعمال التدريس هنا، ولا يمكنه أن يعود دون مقابلة ذاك الأستاذ.
وسط تلك الحيرة المركبة، روى الحادثة في اليوم نفسه لراهب صديقه، فتبرع هذا أن يحاول الاتصال بغادامر وكان على صداقة معه. وما هي، حتّى اتصل الراهب ب”بونا إتيان” مبشّراً: “البروفسور غادامر يلتقيك بعد غد، الأحد، لخمس عشرة دقيقة”.
بين فرح الظافر واستغراب التغيّر المفاجئ، ذهب “بونا إتيان” مع صديقه الراهب إلى الموعد، حتّى إذا دخل وأبدى لغادامر شكره الشديد على قبوله تقديم الموعد، بادره هذا الأخير: “لم يكن عندي موعد في مفكرتي قبل ثلاثة أسابيع، ولكن، بما لصديقك الراهب من مكانة لديّ، ولكي أستطيع استقبالك فلا أؤخرك عن السفر إلى بلادك، وتقديراً لجهدك الأكاديمي في هذا الموضوع الشائك الصعب عن هايدغر، اقتطعت ربع ساعة من فترة ساعات ثلاث أخصصها أسبوعياً بعد ظهر كل يوم أحد لسماع الموسيقى الكلاسيكية”.
وبإيجاز ثمين قدّم البروفسور الألماني كل ما يحتاج زائره م معلومات. وفي الدقيقة الخامسة عشرة، نظر إلى ساعته، ففهم “بونا إتيان”، وشكر وانصرف، تاركاً البروفسور غادامر يواصل ما تبقى له من الساعات الأسبوعية الثلاث يستمع فيها إلى الموسيقى الكلاسيكية.
هذا العقل الذي “يهندس” استعمال وقته في دقة من يخصص، لوقت فراغه، ثلاث ساعات أسبوعية للموسيقى الكلاسيكية، هو عقل مهيأ حقاً للدخول إلى القرن الحادي والعشرين.
فما المسافة الضوئية بين هذا العقل، وعقل من يمضون فراغهم أمام التلفزيون، أو في مقاهي الأرصفة حول فنجان قهوة يتكرر بتكرار حبّات سبحة في أيديهم تجتر التنظير في أفواههم؟