هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

46: الصديق الوفي إيليا وطعم صداقة الشاعر

الجمعة 22 أيار 1998
– 46 –
كان ذلك في صيف 1966. وكنت أتهيأ للدخول إلى الجامعة بعد نجاحي في الباكالوريا القسم الثاني (فلسفة). وكان لبنان الثقافي، على قلّة متابعتي إياه فترتئذ، يلهج بمجلّة أدبية صدرت في آذار عاكئذ: “المواسم”، وبصاحبها الشاعر القائد من أفريقيا كي يتكرّس لها: إيليا أبو شديد. وكان صدر في عدد آب مقال (ص 10) للشاعر أسعد سابا، بعنوان “هيدا هوي”، يهاجم فيف سعيد عقل بشكل مجحف وجائر ويتطرّق إلى أمور شخصية في حياته لا علاقة لها بالشعر. وكنت في مطلع حماستي لسعيد عقل الذي لم أكن رأيته بعد ولا حتَّى من بعيد. فدفعتني حماستي إلى كتابة مقال أدافع فيه عن الشاعر الذي كنت أتوق إلى التقائه، على أمل أن أرى المقال منشوراً في العدد التالي ضمن “بريد القرّاء”.
وكم كانت دهشتي (ممزوجة بفرحتي والغبطة) حين عرعت مع مطلع شهر أيلول لأتصفح العدد الجديد من “المواسم”، وفوجئت بمقالي، لا في “بريد القرّاء”، بل مفلوشاً على صفحتين (14 و15) من العدد، بعنوان كبير دبّجه مخرج المجلة عهدذاك بيار صادق: “لا… هيدا هوي يا أسعد سابا”.
وكان ذاك أول مقال منشور لي على الإطلاق، يمكن اعتباره فاتحة حياتي الأدبية والصحافية.
على أنه لم يحملني إلى التعرّف بسعيد عقل ولا بإيليا أبو شديد، لأن المجلة توقفت عن الصدور بعد عدد واحد (تشرين الأول)، واحتجبت نهائياً. وبعد أشهر، حملتني الصدفة إلى كلية الآداب في الجامعة اللبنانية (السنة الأولى) حيث التقيت بزميل دراستي المتوسطة في معهد الرسل (جونيه)، الصديق الشاعر نبيل ملاّح، ففرحت بلقائه بعد غياب سنوات، وفرحت أكثر باكتشافي أنه أخو الشاعر إيليا أبو شديد.
وبواسطة نبيل، تعرّفت إلى إيليا، وكانت بيننا صداقة منذ ذاك العام، رافقت فيها إيليا الصديق، وإيليا الشاعر، وخاصة خاصة: إيليا الوفي للقيم والصداقات.
وحين عزمت عام 1982 على إصدار مجلّتي الشعرية “الأوديسيه”، وجدت إيليا حدّي، في قوة وعزم وحماسة، فكان أوّل المتحمّسين لها، ينشر قصيدة جديدة في كلّ عدد، ويتولّى عدداً كبيراً من المشتركين يوصل الأعداد إليهم على طريقته، ويحضر “ندوة الأوديسيه” الشهرية بدون انقطاع ويقرأ جديده على منبرها (في غاليري “دامو”- أنطلياس). وحين احتفلت بالذكرى الأولى لصدور “الأوديسيه”، في مهرجان شعري كبير (مسرح كازينو لبنان- أيار 1983)، كان إيليا حدّي، بقيافته وأناقته، وقصيدة “سكران” التي أشعلت القاعة بجمهورها الذي بلغ 1200 حتَّى ضاقت به المقاعد.
صداقة عمر مع إيليا، الصديق الوفي إيليا، النقي المخلص إيليا، النادر بين الأصدقاء إيليا، ومحبة عمر غامرة ظلّ ينفحني بها حتَّى على فراش مرضه الأخير حين كنت أزوره بلهفة الاطمئنان، وهو يرمقني بعينين فيهما طعم الوداع، وفيهما أيضاً طعم شجاعة الشاعر على مواجهة الموت.
لذا أحرقني غيابه، تاركاً في سكوتي فراغاً لا يملأه إلاّ عزائي بما كان بيننا من محبة كثيرة.