هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

626: أين نحن من السياسة الثقافية؟

أين نحن من السياسة الثقافية؟

السبت 5 كانون الأول 2009
– 626 –

في البيان الوزاري الأسبق نالت الثقافة (البند العاشر) حيّزاً موسَّعاً فصَّلَ ما “تنويه الحكومة من رعاية الشأن الثقافي” وجاء فيه أنَ “لِقضايا الثقافة مكانَها البارز في مشروع بناء لبنان الجديد، فنهضة لبنان تعني نهضة الثقافة على نحوٍ يُظهر وجهَ لبنان الحضاري وغنى تراثه وإسهامات أبنائه. فالثقافة في لبنان أساسُ وجوده وهويّته، وهو اليوم مدعوٌّ الى أن يؤدّي دوراً فاعلاً وريادياً في إطلاق نهضة عربية جديدة”.
وفي البيان الوزاري السابق نالت الثقافة (البند 62) حيِّزاً أقلّ من سلَفه، كرَّر بعض ما جاء في ذاك السابق وأضاف “ضرورة إقرار مشاريع القوانين التنظيميّة لوزارة الثقافة ومديريّاتها والمؤسسات والهيئات العامة تحت وصايتها”. وتمكّنت الوزارة من تحقيق فعاليات لـ”بيروت عاصمة عالمية للكتاب” بلغَت أكثر من 400 مشروع، وعدداً كبيراً جداً من الكُتُب والكتيّبات والمنشورات.
وفي البيان الوزاري الأخير (الحكومة الحالية) اقتصر حيّز الثقافة خجولاً على 4 أسطر تكرّرت فيها عبارات “العمل على” و”مباشرة تنفيذ” و”الشروع في”، كأنما جاء نوعاً من رفع العتب كي لا يغيب ذكْرُها من البيان كونها وزارة موجودة. غير أنّ لنا، تعويضاً، دلائلَ مبشّرة مع اهتمام الرؤساء (الشخصي والرسمي) بالفن والموسيقى (رعايةً واحتفالاتٍ وفتحَ أبنيةٍ رسمية لأمسياتٍ ثقافية راقية).
وإذا أَضفنا الى هذه الضحالة الخجول، عند ذكر الثقافة في البيان الوزاري الحالي، كونَ موازنة هذه الوزارة لم تصل بعدُ الى نسبة الواحد في المئة من الموازنة العامة، يتبيّن مدى اهتمام الحكومة الضئيل بالشأن الثقافي الذي يبدو أنه يأتي لديها في مرتبات دُنيا تسبقها اهتمامات ذاتُ شأن معيشي وسياسي وأمني وعسكري، وهو أكيداً أمرٌ طبيعي وضروري، لكنه موجود كذلك في جميع الدول الحضارية وتوليه اهتمامها أنما أيضاً تولي الثقافة شأناً لا يقلّ أَبداً عن الشؤون المعيشية والأمنية والعسكرية والدفاعية وما إليها.
ما الذي تستطيعه عندنا وزارة ثقافة تعطى ميزانية متواضعة، وما الذي يستطيعه وزير الثقافة، مهما كانت طموحاته ورؤيته الثقافية، حين لا قدرة مالية لديه على تنفيذ مشاريع كبرى أو رعاية أعمال كبرى أو تحقيق بصمات ثقافية تليق بلبنان؟
هذه الظاهرة ليست جديدة علينا. فلم تكن عندنا يوماً رؤية رسمية ثقافية تُخطّط وتنفّذ وترعى وتدعم وسطاً ثقافياً مبدعاً في لبنان هو الذي، بأعلامه وأعماله، يرسم وجه لبنان الثقافي في لبنان والعالم. وفي تقرير خبير من الأونسكو زار لبنان في أواخر السبعينات جاء أنْ “ليس في لبنان سياسةٌ ثقافية، مع أن الثقافة واقع مشرقٌ في هذا البلد”. واستعاد هذه العبارة جوزف أبو رزق في مقدمة كتابه “السياسة الثقافية في لبنان” (صدر بالفرنسية سنة 1981 في سلسلة “السياسات الثقافية في العالم” – منشورات منظمة الأونسكو – باريس)، وفصّل فيه واقع الثقافة في لبنان ومؤسساتها وهيئاتها وسيرورة عملها، واقترح (ص 30) ثمانية حلول لتنشيط هذه السياسة الثقافية وكيفية تفعليها رسمياً كي تثمر وتنشط أكثر.
1981؟؟ يعني ما يزيد عن ربع قرن! فماذا تغيّر في لبنان منذ ربع قرن في اهتمام الدولة بالثقافة؟ المؤسسات الثقافية الرسمية تنشط بما تستطيع وضمن المتاح لها مالياً، لكنّ معظم عملها يبقى إدارياً دون إمكان توسيعه الى الإتاحة الإبداعية. وتغيب كلياً خطة مُحدَّدة منهجية قابلة للتنفيذ تَجعل للدولة سياسة ذات رؤية ثقافية كما لدى دول أخرى تضع خططاً خمسية أو عشرية تستشرف الحالة الثقافة في السنوات التالية، من دون الغرق في “سين سَوف” وفي وُعُود نظرية على الورق يزخر بها عندنا كل بيان وزاري.
في قاموس الموازنة كلمة “فذلكة” تشرح وتبرّر وتفسّر وتفصّل ما سيكون ولماذا وكيف. وهذه تنطبق على قطاعات عدّة في الدولة. فلماذا لا تكون عندنا “فذلكة” مُماثلة لشأن ثقافي قائم عندنا على ما سوى أنشطة المبدعين الفردية؟ على أننا سنبقى متفائلين بتنفيذٍ يكون على مستوى انتظارات المواهب والمهارات والكفاءات الثقافية للمبدعين اللبنانيين ومتلقّيهم من المواطنين العاديين.
إنما المطلوب “سياسة ثقافية” لا “أنشطة ومؤسسات وهيئات” تقوم أصلاً بما تستطيعه. فلا قيمة لتشريعات لا تقترن برؤية ثقافية تحقق “الفعل” الثقافي الخلاّق لا “العمل” الثقافي الروتيني، وتتيح إيصال الثقافة الى المواطنين حقاً لهم كحقّهم في أيّ حاجة معيشية أُخرى. وهذا يتطلّب ميزانية لـ”تنمية ثقافية” يضعها خبراء واختصاصيون، وعندئذٍ ينفّذها أيُّ وزير قادر وأية مؤسسات فاعلة ضمن هيكلية رسمية تجعل الثقافة خبزاً يومياً لجميع المواطنين.