هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

378: يوم تنهض الصين؟ وها هي تنهض

السبت 25 تشرين الأول 2004
بكّين – 378-
أثناء ترجمتي كتابَ آلان بيرفيت “يوم تنهض الصين يهتزُّ العالم” (منشورات عويدات 1974) كنتُ مستمتعاً بمرافقة الْمؤلف في جولاته على هذا الشعب الذي “يعيش في التقشُّف لكنه يستعد للوثوب الى قلب المعاصَرة”. وفي هذا ما دفع بونابارت الى قولته الشهيرة التي ردَّدها سفير الصين في جزر موريس قبل سنوات أمام نائب رئيس الجمهورية فبادره هذا “… بل قل: سيندهش العالم”. وتردَّدت كثيراً، في كتاب بيرفيت، عبارة ماو تسي تونغ “أقول لشعبنا ورفاقنا: علينا أن نكون مستعدين، فطريقنا صعب وطويل، وما زال أمامنا الكثير من المشقات والمصاعب، لكننا وئيداً سنصل”.
بهذه الروح الصَّبُور أخذت الصين، وخصوصاً منذ 1949، تصبح “صيناً جديدة” بكل نبضها لا بـ”الجمهورية” فقط، وهو ما يلاحظه الزائر والسائح والباحث في كل مدينة من الصين اليوم وقرية ودسكرة.
والذي قال: “لا توقظوا التنين الأصفر” كان يخشى استيقاظه كي لا يهيمن على العالم الذي، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، بات اليوم تحت هيمنة قوةٍ عظمى وحيدة. غير أن “التنين الأصفر” الذي قرَّر، قبل نصف قرن، أن ينهض وما زال، لا يتثاءب من نومه مهدِّداً، بل متهاوداً على إيقاع أن يبني شعبه وبلاده حاضراً ومستقبلاً، نهْلاً من حضارات الأمس العظيمة، واستباقاً للآتي من أيام سيصبح فيها التنين أعلى من أي “نسر” يَخال أنه على قمة العالم.
ما شهدناه من معالم في بكين (القصر الصيفي للأمبراطور، معبد السماء، السور العظيم، المدينة المحرَّمة) وفي نانجين (القصر الرئاسي، بوابة المدينة، ضريح صن يات سن، معبد كونفوشيوس) وفي شانغهاي (مركز تخطيط المدينة، برج المدينة، المتحف التاريخي) الى ما لمسناه من عمران يتسارع ويتدفّق ويَحلَولي حديثاً ورؤيوياً وجماليّاً في مدنٍ “تتعصْرَنُ” من دون عقدة أو تشبُّه أو قيود، يَجعل زائر الصين اليوم (ومنذ انفتاحها على العالم الخارجي مع مطلع التسعينات) يشعر أنه في بلاد بدأت تستخدم حجمها الديموغرافي (مليار و300 مليون نسمة) لا لـ”هَز العالَم” (كما قال نابوليون بونابارت) ولا لـ”إدهاش العالم” (كما قال نائب رئيس جزيرة موريس) ولا لـ”إخافة العالم” كما سرى القول، بل لبناء بلاد متصالِحةٍ مع تاريْخها العظيم، صالِحةٍ لبسْط راهنها على مساحة حاضر ابن العصر، مستصلحةً من المستقبل ما يقود شعبها الى الرفاه من دون الوقوع في أحضان غرْبٍ زحف الى الصين في قوةٍ ونهم، لكنه لم (والأرجح لن) يتمكن من “غَرْبَنَتها”.
وما شاهدناه ضمن المتحف التاريخي في شانغهاي يُثبت واضحاً أن الصين تُحافظ على كل ذرَّةٍ من تاريخها السحيق، لكنها لم تتَصَنَّم فيه بل هي تستخدم أحدث الأحدث في التكنولوجيا لإظهار هذا القديم في وسائل حديثةٍ تُبْرِزُ القديم أجمل وتجعل المتلقّي يستسيغُه بذوق اليوم المتطوّر عوض أن يمر به مشفقاً على ظروف عيشةٍ في الماضي مزْريةٍ بدائية.
وما شاهدناه لدى زيارة ضريح صَن يات سن في نانْجين، يُثبتُ واضحاً أن الصين تكرّم عظماءَها (من أقصى كونفوشيوس الى أدنى ماو تسي تونغ) لا بمظاهر توتاليتارية تدعو الى السخرية، بل بنضجٍ عصري يجعل الذاكرة نابضةً بالماضي من دون الإقفال على استذكار المستقبل.
عند مدخل “المدينة المحرّمة” في بكين، سألتُ دليلتَنا الصينية الشابة جوليا عن رمز هذه “السلحفاة المتطلّعة صوب ساعة الزمن” فقالت: “إنها بلادي الْمُتَسَلْحِفَةُ الى الغد ببطءٍ وثقة”.