عند وصولي إِلى الولايات المتحدة قبل أَربعين سنة، كان أَولُ منزلٍ سكنْتُه مُشرفًا على الشارع الفرعي في المدينة، وتاليًا على حركة السير المتواصلة فيه بسُرعة قُصوى لا تتجاوز 60 كلم/ساعة. وكانت على مقرُبة من منزلي مدرسةٌ رسميةٌ للصغار، قبْلَها بـ500 متر لوحة تشير إلى 30 كلم/ساعة سرعة قصوى، ورادار يسجل مخالفة قاسية جدًّا لمن يتجاوز تلك السرعة القصوى. لذا كانت السيارات عند تلك اللوحة المرورية تخفِّف السرعة حتى 30 كلم/ساعة، ولا تعود إِلى السرعة العادية المتاحة إِلَّا بعد 500 متر من المدرسة. وكل ذلك حفاظًا على سلامة التلامذة.
وأَكثر بعد: حين كنت أَمرُّ في الشوارع، وأَمامي الباص المدرسي الأَصفر الموحَّد في كل تلك الأَميركا، كان يبدأُ بتخفيف سرعته، فيما إِلى الجهة اليُسرى، أَي جهة التجاوز، تمتدُّ منه كفٌّ معدنية كبيرة حمراء عليها كلمة STOP ، من الخلْف ومن الأَمام للسيارات الآتية أَمامه من الجهة المقابِلة، وفي أَعلى الباص من الأَمام ومن الخلْف تروح أَضواء حمراء كبيرة تضيْءُ في سرعة متوتِّرة كي تنبِّه السائقين أَمامه ووراءَه أَنْ يتوقفوا كلِّيًا وراءَ الباص وأَمامه. وما إِلَّا بعد نحو 3 دقائق، أَي بعد أَن يترجَّلَ الأَولاد إِلى مدخل بيتهم، حتى تتغيَّرَ الأَضواءُ الحمراء إِلى صفراء ثم تنطفئ تدريجيًّا، وتنعقِفُ الكفُّ الحديديةُ الحمراء إِلى مكانها، وعندئذ يتحرَّك الباص ويُمكن تَجَاوُزُه ضمن السُرعة المتاحة. ومجدَّدًا: كلُّ هذا حفاظًا على سلامة التلامذة.
عنصرٌ أَخيرٌ بعد: علمْتُ من صديق لبناني يعيش في أَميركا، ولَداه في مدرسة رسمية، أَن المدرسة تفرِض على سائق الباص أَن يتفقَّد جميع وظائفه صباحَ كلِّ يوم -أُكرر: صباح كل يوم- كي يتأَكد من نظافته وصلاحية سيره حفاظًا على سلامة التلامذة.
هذا ما عاينْتُه سنواتٍ في أَميركا، ولعلَّه شبيهٌ بما في دول أُخرى راقية تحترم الأَمن والأَمان والسلامة المرورية.
ما كنت أَحسَبني سأَكتب عن هذا الموضوع، حتى وقعَت في طرابلس كارثةُ الباص التي قصفَت نسرين عز الدين في ربيعها الثاني عشر، بسقوطها إِلى حفرة في أَرض الباص المهترئة كان سائقُه وضَع فوقها رقعةً مطاطية هزيلة انهارت تحت قَدَمَي نسرين حين اهتزَّ بها مقعدُها الْكان أَساسًا غيرَ ثابت، وما وقفَت على تلك الرقعة المطاطية الرخْوة حتى سقَطت بها وتدحرَجَت نسرين بين عجلات ذاك الباص اللعين الأَصلًا كان مركونًا للتلَف والأَنقاض لأَن هيكلَه مهترئٌ غيرُ صالح للسير ولا حتى زريبةً للخنازير.
حِيال الدقّة حرصًا على سلامة التلامذة في أَميركا، كما ذكرتُ، أَو في أَيّ بلد يحرِص على سلامة التلامذة خصوصًا وعلى المواطنين عمومًا، ماذا نقول عما جرى للزنبقة نسرين، وما جرى لسواها وما قد يجري يوميًّا على طرقاتنا الأَدغالية في قلْب المدن!
لم يعد يُجدي الكلام في مسؤُولين محنَّطي الضمائر متحجِّري البصائر، تاركين البلادَ “سارحَة والرب راعيها”! لا نتيجةَ منهم ولا بصيصَ أَمل، ولا خلاص إِلَّا بخروجهم من دائرة المسؤُولية كي يحِلَّ مكانهم مَن يعرفون معنى الارتقاب والاحتساب.
أَما صغارنا في المدارس، فليس لهم سوى أَن يفرِضَ مسؤُولوها على سائقيها أَن يتفحَّصوا باصاتهم صباح كل يوم – أُكرر: صباح كل يوم – كي يأْمنوا تَجَوُّلها بسلامة، وأَن يكلِّفوا في كل باص معاوُنًا أَو معاوِنةً لضبط التلامذة في مقاعدهم أَو في سلوكهم عند باب الباص أَو نوافذه. لعلَّنا – في انتظار التعامُل مع صغارنا في الباص كزنابقَ بشريةٍ لا كشلْعات بقر – نأْمل أَن يستيقظَ ضمير المسؤُولين في المدارس كما في الحُكْم، كي لا تنقصفَ فاجعيًّا زنابقُ أُخرى كما انقصفَت الزنبقةُ البيضاء نسرين عز الدين.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com