هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

ظلَمَتْها المحكمة فأَنْصَفَها ڤيكتور هوغو
النهار العربي (54) – الجمعة 7 أَيَّار 2021

هنري زغيب

          8 أَيار/مايو: اليوم العالمي لمُسعفي ومسعفات الصليب الأَحمر والهلال الأَحمر في ذكرى ولادة هنري دونان (1828-1903) مؤَسس الصليب الأَحمر (1863) وأَول حائزٍ جائزةَ نوبل للسلام (1901). بعد 8 سنوات من التأْسيس، هي ذي مُسْعِفة تُنْجد الجرحى في ثورة پاريس (أَو “كومونة پاريس”، دامت 72 يومًا: انفجرَت في 28 آذار/مارس 1871 حتى الأُسبوع الدموي: 21-28 أَيار/مايو 1871).

            إِنها أُولالي پاپاڤوانّ Eulalie Papavoine. كالشهاب التمعَت إِبَّان الثورة وانطفأَت كشهابٍ وميض، تاركةً ذكرى ساطعةً في إِسعاف مصابين وجرحى رافضين ما كانت السلطة يومها تفرض عليهم ظُلمًا وإِجحافًا.

          لم تترك المدوَّنات كثيرَ كلام عنها سوى أَنها خيَّاطة پاريسية، وأَنها كانت في ربيعها الخامس والعشرين (وُلدت سنة 1846) حين اندلعت الثورة، وأَنها حوكمَت بتهمة “مشْعلات النار”، وأَنها توفيَت مقهورة معزولة سنة 1875 قبل أَن تبلغ ربيعها التاسع العشرين.

          لم تتزوَّج لكنها أَنجبت ولدًا وحيدًا من مساكنتها الحفَّارَ الحرَفي ريمي بالتازار، وهو كان جنديًّا في الكتيبة 135 من الحرس الوطني، لكنه انضمَّ إِلى صفوف الثورة ولحقَت به أُولالي.

          كيف انفجرَت الثورة؟  

          خسرَت فرنسا الحرب الفرنسية الپروسية سنة 1870، وظلَّ الجيش الأَلماني محاصرًا پاريس حتى توقيع اتفاق الهدنة في كانون الثاني/يناير 1871. عانى الپاريسيون من الحصار والجوع، وهدَّتهم الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، فأَعلن العمال العصيان على رواتب ضحلة عن أَعمالهم المضْنية وعلى غياب الديمقراطية في الحكْم، فانتفض الأَهالي ينادون بالديمقراطية رافضين الاعتراف بحكومة أَدولف تيير المنبثقة من مجلس نوابٍ أَكثريتُه مواليةٌ النظامَ الملَكي ضد الديمقراطية.

          اشتعلَت الثورة بسرعة وامتدَّت بسرعة. غادرت الحكومة إِلى ڤرساي، وبقيَت ساحات پاريس مسرح الثوار الغاضبين، رفضوا حكومة ڤرساي، وفرضوا نوعًا من الحكْم الذاتي، متخذين قرارات فورية، منها: إِتاحة فرَص التجنس للأَجانب، مصادرة المؤَسسات، إِنشاء مؤَسسات ذات إِدارة ذاتية، الاعتراف بالاتحادات الحرة، إنشاء مواقع بلدية محلية.

          أُولالي المسعفة الثائرة

          تصدَّرت الثائرات لويز ميشال فانضمت إِليها مجموعة نساء على الحواجز وفي إدارة الشؤون اليومية. لكن الثورة انكسرت قسرًا في الأُسبوع الدموي الرهيب (21-28 آذار 1871) حين هجم جيش السلطة بوحشية قاتلًا المئات بلا رحمة، معتقلًا المئات ومحاكمًا المئات.

          كانت أُولالي وجهًا بارزًا في الثورة. رافقَت خليلها ريمي إِلى نويّــي ولوڤالْوَى. لم تحارب بل كانت تسعف الجرحى بالضمادات الأَولية قبْل نقلهم إِلى “مستشفى المحبة” القريب. في ختام الأُسبوع الدموي اعتُقِلَت بتهمة التحريض وإِشعال الحرائق في شوارع پاريس وخصوصًا في مبنى لجنة الشرف إِبان التظاهرات الجامحة. وكانت تهمة “مشْعلات النار” خطيرة يومها لأَنها انتفاضة نسائية انتصارًا للمرأَة المحرومة من حقوقها السياسية.

أَنكرت أُولالي التهمة واعترفت بأَنها كانت فقط تضمِّد جراح الثوار المصابين. في 4 أَيلول/سپتمبر 1871 حوكمَت وصدر الحكم عليها بالإِعدام، وخُفِّفَ إِلى عقوبة الأَشغال الشاقة ونزْع الحقوق المدنية عنها، ونفْيها إِلى غْويَّان. وفي المنفى سُمح لها بعقْد زواجها مع ريمي كي يكون شرعيًّا ولدُهما ذو الأَربع سنوات.

          ڤيكتور هوغو ينتصر لها

          كان ڤيكتور هوغو عاد إِلى فرنسا في 5 أَيلول/سپتمبر 1870 (بعد 19 سنة من المنفى)، فصعقَتْه قضية أُولالي وزميلتَيْها في الثورة ليونتين سْوِيتِن وجوزفين مارشيه، معتبرًا إِياهن ضحايا حكْم جائر إِذ “لسْنَ مجرمات حرب”. فكتب في مجموعته “أَفعال وأَقوال” (الجزء 6 ص 16) ثائرًا على الإِجحاف في هذه المسأَلة الاجتماعية: “أَطلب الحق بالحياة لهؤُلاء النسْوة الثلاث التاعسات. ومع اعترافي بأَنهن شاركن في الثورة وظهرْن على الحواجز لِلَمْلَمة الجرحى، لكنَّ إِحداهُنَّ أُمٌّ قالت لدى لفْظ حكْم الإِعدام: “أَنا لا أَخشى الموت، ولكنْ مَن يهتمُّ بطفلي بعدي”. وأَنا مثلها أَسأَل أَيضًا: مَن يهتمّ بطفلها بعدها؟ كلُّ الجرح الاجتماعي في هذه العبارة. كنتُ ساذجًا قبل أَيام حين طالبتُ بالوحدة بين الفرنسيين، وأَكون ساذجًا أَن أَطلب اليوم الحياةَ للمحكومين. هذه أُمٌّ ستموت، وهوذا طفلٌ سيموت بعدها. وإنني أَسأَل أَولياء عدالتنا: هل الأُمُّ مذنبةٌ فتموت؟ قولوا نعم أَو لا. هل الطفل مذنب؟ هل منكم مَن يجرؤُ على القول: نعم؟ أُعلنها بوضوح: تصعقُني فكرة هذه البراءة التي تعاقَب عن أَخطائنا نحن. العذر الوحيد للعقوبة هو تطبيق القانون. ولكنْ… لا أَفظع من قانون يطَبَّق على عماه. إِنها عدالة البشر تقطع نبع الحياة عن شفتَي طفل لا تنصُرُه إِلَّا عدالة السماء. وما أَرهبَ قوانيننا الأَرضية الظالمة أَمام قوانين السماء الرحومة”.

          وقود الثورة     

          في 24 أَيار/مايو 1875 انطفأَت أُولالي وحيدةً معزولةً في المنفى، ولم يبقَ من ذكْرها سوى كلمات ڤيكتور هوغو، وشارع صغير باسمها في بلدة ساڤينـيـي (منطقة إِيل دوفرانس).

          هكذا دائمًا: تشتعل الثورة، تنطفئ الثورة، تحقِّق غاياتها غالبًا، يَنبثق منها ثوَّارٌ تسطَع أَسماؤُهم، وآخرون تَخبو أَسماؤُهم، كانوا وقودًا للثورة، لا تسطع منهم الأَسماء ولا يبقى منهم سوى وهْج بعيد كذاك الوهج البعيد الباقي من مسعفة متواضعة كان اسمها أُولالي پاپاڤوانّ.

            كلام الصور

– أُولالي پاپافوانّ (الأُولى من اليمين) في تظاهرةٍ للثورة

  1. أُولالي في أَحد اجتماعات الثورة
  2. أُولالي تدافع في قاعة المحكمة
  3. مشْعلات النار في إِحدى ليالي الثورة
  4. تظاهرة نسائية في 3 نيسان/أَپريل 1871 شاركت فيها أُولالي