هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

إِدنا أُوبْرايِن: وسامٌ لــ”الصبيَّة التسعينيَّة”
النهار العربي (39) – الثلثاء 16 آذار 2021

هنري زغيب

اختتمَت فرنسا الثقافيةُ أُسبوعَ المرأَة العالمي (8-14آذار/مارس) ببادرةٍ لافتة: منْحُ وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشْلو الروائيةَ الإِيرلنديةَ إِدنا أَوبْراين “وسامَ الفنون والآداب” من رتبة كومندور (تمنحه سنويًّا وزارةُ الثقافة في فرنسا لأَعلامٍ في الأَدب والفنون ذوي تأْثير في الثقافة الفرنسية).

هذا يشير إِلى أَمرَين: تكريمُ فرنسا الثقافةِ الروائيةَ الشهيرة، وتأْثيرُ كتابات أُوبْرايِن على قرَّائها، عبر 21 رواية حتى اليوم، ومؤَلَّفات أُخرى في الشعر والقصة القصيرة والمسرح وقصص الأَطفال.

علامة هذه “الصبية التسعينية” (وُلدت صباح الإِثنين 15 كانون الأَول/ديسمبر 1930 في  قرية تْوام غراني، غربي إِيرلندا) أَنها تدير كتفَها للعمر، وجهَها للمستقبل، قلمَها للحياة، ولا تتوقَّف عن كتابة. كأَنما الكتابة سُرَّتُها مع الخلود، سرُّها مع العافية الأَدبية، ومسارَرَتُها مع الكلمات.

صدمة السنوات الباكرة

باكرًا بدأَت تلك المسارَرة منذ باكورة مؤَلَّفاتها: حين صدر الجزءُ الأَول من ثلاثيتها الروائية “بنات البَلَد” (1960) سبَّب صدمة في مجتمعها فتم إِحراقُ الكتاب وسحبُه من التداوُل. سوى أَنها لم ترتدع: أَصدرَت الجزء الثاني “الفتاة المستوحدة” (1962) ثم الثالث “صبايا في جنَّة الزواج” (1964). سببُ تلك النقمة عليها أَنها جَرُؤَت: نسجَت قصص صبايا كاثوليكيات في مطالع تجربتهنَّ الجنسية، كما عاشت هي تلك التجربة سرًّا في سنوات مراهقتها. فهي ذاتُ طفولة بائسة قاسية بين أُمٍّ سافرت إِلى نيويورك تعمل خادمةً في البيوت، ثم عادت إِلى إيرلندا تتزوج فلَّاحًا سكِّيرًا فظًّا هدَّدها غير مرة بقتلها مع أَولادها. وبدون رضى والدَيها تزوَّجَت سنة 1952 الكاتب الإِيرلندي التشيكيّ إِرنست غـيـبـيـيـه وانتقلت معه إِلى لندن لتَلِدَ منه ولدَين وتنفصل عنه سنة 1964 منصرفةً إِلى الكتابة.

ومذذاك لا تنفكُّ تكتب في حميَّة العافية، وهي اليوم في “ربيعها” الحادي والتسعين. قبل عامين (2019) روايتُها “صبيّة” سجَّلت بسُرعةٍ أَكثر الكتُب مبيعًا، وهي قصة تلميذات نيجيريات خطفهنَّ جنود “بوكو حرام” سنة 2014 من مدرستهنَّ الرسمية واغتصبوهنَّ وعذَّبوهنّ. وهي نالت عليها جائزة “مجموعة كيري الإِيرلندية للقصة والرواية” لسنة 2020.

منْعُ كتاباتها الأُولى كان حافزًا لانتشار مؤَلفاتها أَوسع، سرًّا أَحيانًا إِنما أَوسع، حتى لهي اليوم علامة ساطعة في الأَدب الإِيرلندي المعاصر، لأَنها كسرَت “التابو” الاجتماعي والمحرَّمات الجنسية في الأَدب.

وقبل نحو عام (نيسان/أَبريل 2020) الْتَمع كالشِهاب كتابُها البيوغرافي الجديد “جُوْيْس ونورا: سيرةُ زواج سعيد” عن علاقة الحب الكبير بين مواطنها الإِيرلندي الكاتب جيمس جُوْيْس (1882-1941) وحبيبته وزوجته نورا بارناكْلْ  (1884-1951).

الوسام: احتفالٌ عن بُعد

في بيتها اللندُني، خلال الاحتفال التكريمي الإِلكتروني الذي نظَّمَتْه “الحلقةُ الأَدبية الإِيرلندية” (في العاصمة دَبْلِن) وشاركت فيه عن بُعدٍ وزيرتا الثقافة الفرنسية روزلين باشلو والإِيرلندية كاثرين مارتِن، لاحظْنا خفر إِدنا على وجهها البريء وهي تقول ببساطة عفويّ: “كثيرٌ عليَّ هذا الوسام. حين أَتلقَّى مِداليته التعويذية حاملةَ الحظ إِليّ، سأُعلِّقها في عُنقي حتى آخر يوم في حياتي”.

 وفي مقابلتها التلڤزيونية مع “مؤَسسة الراديو والتلڤزيون الإِيرلندية” العريقة (تأَسست سنة 1926) قالت بالبساطة ذاتها: “الكتابة لازمَت تواطُؤي السرّي طوال حياتي لأَنها كانت محرَّمة عليَّ في بيئتي العائلية والوطنية. وها أَنا أَنالُ عليها اليوم هذا الوسامَ العالي تمنحُنيه فرنسا المجيدةُ التاريخِ الأَدبي”.

وهذا التقدير جاء تتويجًا تنويهاتٍ وأَوسمةً سابقة نالتْها إِدنا، منها: وسام “القلم الإِيرلندي” على مجموع مؤَلَّفاتها، المدالية الوطنية الأَميركية الذهبية للفنون، جائزة فرانك أُوكُّنور العالمية للقصة القصيرة (كاتب إِيرلندي: 1903-1966، له 150 كتابًا، أُنشئَت الجائزة سنة 2005 لتخليده)، جائزة نابوكوڤ للأَدب العالمي (ڤلاديمير نابوكوڤ: 1899-1977،  كاتب روسي أُنشئت الجائزة على اسمه سنة 2000)، وسواها.

لا أَعرف كيف

وزيرةُ الثقافة الفرنسيةُ من إِعلان منْحِها الوسامَ قالت: “قرارُنا منْحَكِ هذا الوسامَ تقديرٌ منّا كتاباتِكِ الغزيرةَ المتنوعةَ، أَغنَت الأَدب الإِيرلنديَّ في أَكثر من حقلٍ إِبداعيٍّ، تلتزمين فيها مبدأَ الحرية المسؤُولة في حياتك،كما في كتاباتٍ لكِ قوية التأْثير أَلْهمَت نساءً كثيراتٍ من بلادكِ ومن قارئاتِكِ في كل مكان، ووجَّهَتْهُنَّ صوب كسر القيود الاجتماعية المتزمتة (…) إِن فرنسا تغْنى بمسيرتكِ الأَدبية المتواصلة طيلة ستة عقود، أَنتِ فيها الكاتبة الإِيرلندية التي باتت اليوم جوهرةً أَدبية عالمية”. وجاء في جواب إِدنا شاكرةً: “لا أَعرف كيف صرتُ كاتبة. أَعرف أَنني تزوجتُ الأَدب وبات كلَّ عالمي فتكرَّسْتُ له. أَظنُّ أَنَّ في كلٍّ منّا كلماتٍ مجهولةً جنينينةً تنتظر مَن يَلِدُها. كنتُ أَنا أَنتظر فَوُلِدَتْ على يَدَيّ”.

بعفوية قالتْها إِدنا، بدون تصنُّع ولا تكلُّف. قالتها كما أَحسَّت بها، وكما وَلَدتْها.

وإِنما هكذا قدرُ الكاتب، شاعرًا كان أَو ناثرًا: لا يعرف كيف ولا متى. قدَرُ الكتابة نبْعٌ في باطن الحياة، لا يعرف أَحدٌ مسْبَقًا كيف ومتى ينبع ولا من أَين. إِنْ هي إِلَّا لحظة من القدَر تَسِمُ الولادة، وتختار لها موهبةً تكون مهيَّأَةً لها في ضمير الحياة.

بوركَتْ تلك اللحظة.

كلام الصُور

  1. إِدنا أُوبْراين: “صبا” المرأَة في التسعين
  2. تُتابع تكريمَها عن بُعد
  3. تقرأُ كلمةَ الشكر في احتفال تكريمها
  4. تحمل كتابَها الأَوَّل الذي أَحرقوه عند صدوره