هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

مقهى رصيف في صحو ليلة صيف
النهار العربي (14)- الجمعة 18 كانون الأول 2020

النهار العربـي

هنري زغيب

مقهى رصيف في صحو ليلة صيف

          هادئًا كان في مقعده، يتأَمَّل من النافذة سُهولًا وبيوتًا وناسًا يتمنَّى لو انه يتوقف ليرسم واحدة من تلك اللوحات الطبيعية التي تتوالى أَمامه، فيما القطار يسحب من تحت عجلاته كيلومتراتٍ عاجلةً تلهث من صهيل هذا الحصان البخاري.

          يمر قاطع التذاكر سائلًا عن تذكرة هذا الحالم. لا يلتفت ڤِنْسِنْت ڤـان غوخ. يمدُّ يده بالبطاقة فيما يظل متأَمِّلًا من نافذة القطار مشاهدَ الناس والبيوت.

نحن صباح الاثنين 20 شباط 1888. كان ڤِنْسِنْت غادر ﭘـاريس عشية الأَحد، تاركًا فيها شقيقه الأَوسط تِـيُـو (تيودور: 1857 – 1891) مديرَ غالري بُوسُّو في مونمارتر. غادرَها متْعبًا من ضجيجها، وَوُجهَتُه شمسُ الجنوب في مرسيليا، مدينةِ مُلهمه الفني أَدولف مونْتيتْشِلِّي الذي كان غاب قبل سنتين.

          يتوقَّف القطار في بساط أَبيض جميلٍ تَنبُتُ منه سطوحُ البيوت ذارفةً ثلْجها حول المحطة. يصدر صوت من المذياع: “ها نحن في محطة آرْل – وقفةٌ 15 دقيقة، نكمل بعدها إِلى مرسيليا”.

          من الثلج الحافي إِلى عطور الربيع

          حمل الراكب حقيبتَه، حمَلَ علبة الأَلوان وفراشيها، حمل إِرهاقًا مضْنيًا في جسَده وشوقًا إِلى جرعةٍ من الشاي الأَزرق (الأَبْسِنْت) الـمُسْكِر الـمُخدِّر الذي يُدمنه منذ فترة طويلة حتى بات يَهدُّ صحته، وترجَّل من المقطورة. لحدْسٍ لم يفهَمْه، غيَّر رأْيه عن الذهاب إِلى مرسيليا، وقرَّر البقاء في مدينة آرْل (قبل 90 كلم عن مرسيليا)، غير مدركٍ أَن القدَر يُهيِّئُ له فيه مأْساتين.

          أَيامًا قضى يتنقَّل من فندقٍ إِلى غرفةٍ مستعارة إِلى بيتٍ موقَّتٍ متسكِّعًا متجوِّلًا راسمًا مناظرَ، مشاهدَ، وُجوهًا، ملامحَ أَشخاصٍ بأُسلوبه الخاص الذي بات يُعرف به ولو انه لم يُسعفْه في بيع لوحاته. ثم أَرسل له شقيقه تِيُو من ﭘـاريس مبلغًا ساعده على استئْجار منزل، راح يرسمه بشغَفٍ وتكرَّر في لوحاته باسم “البيت الأَصفر”.

          ذاب الشتاء آخذًا معه صقيع الثلج الصامت، حتى إِذا وصل الربيع بباقات الحقول وأُضمومات البساتين، ابتسمَت شفاهُ الليالي عن نجوم تتكوكب كلَّ ليلة بثريَّات تغمز العاشقين في سماء آرْل، فراح ڤـان غوخ يخرج ليلًا، حاملًا ريشته وأَلوانه، متفقِّدًّا نواحي غيرَ بخيلةٍ بجمال المدى عمقًا وفضاءً.

          ولادة الثلاثية

          أَحَبَّ ڤِنْسِنْت هذه المدينة فأَنتج فيها مجموعةً من أَجمل لوحاته، بينها ثلاثية “ليالي آرْل الـمُرصَّعةُ نجومًا”، رسمَها بأَلوان خالية تمامًا من الأَسْوَد مع أَنها في الليل. شرح ذلك في رسالةٍ إِلى شقيقته ڤـيليمينا: “هنا الليالي لا عتمةَ فيها. هي زرقاء وبنفسجية وخضراء، في مزيج يستعير الأَصفر فيتكامل المشهد وأَهرع إِلى فرشاتي أُسجل اللقطة الهاربة بجمال سكونها”.

          بهذه الدهشة أَمام جمال تلك المدينة، راحت تتكرَّر جولاتُه الليلية: يكتُب على قماشته البيضاء خطوط ليلٍ بدون ليل، تتغاوى في أَلوان رُقشاته ملامحُ غاب عنها الأَسْود كلِّيًّا، يتراقص فيها الأَصفر الهانئ مخاصرًا هنيهات الأَخضر الدافئ والأَزرق الهادئ.

ذات ليلةٍ آرْليَّةٍ ربيعيةٍ أَطل على مقهى رصيف، وصفه لشقيقته بالآتي: “رأَيتُ أَمامه أَشخاصًا يسهرون تحت مصباح مصفرٍّ يشعُّ نوره بخفرٍ على واجهة المقهى وعلى بلاط الرصيف، ويمتدُّ بعيدًا حتى آخر الشارع كما مُقَبِّلًا شفاه نجومٍ سهرانةٍ في سماء زرقاء تتلأُلأُ بنفسجيةً وخضراءَ في مشهد مذهل لا أُحسن وصفه بالكلمات كما تَصفُه ريشتي”. جعلَ يكرِّر زيارته الليليةَ إِلى ذاك المقهى، يركِّز مَلْوَنَتَه ويرسمه ويرسمه ويُعيد ويكرِّر ويُصحح حتى أَنجز اللوحة في صيغتها الأَخيرة (ليلة الخميس 16 أَيلول 1888) وعَنْوَنها “مقهى الرصيف في صحو ليلة آرْل” وهي أُولى ثلاثيَّته.

ويكون أَنَّ في آرْل نهرَ الرون يخترقُها بمهابة ساطعة، فكان ڤـان غوخ يتردَّد ليلًا على ضفته القريبة من البيت الأَصفر، يتأَمل النجوم المبهرجة، ينقلها بأَبجديته اللونية المميزة ويحلم، وهو يرسم عاشقَين فيها، أَن تكون له حبيبةٌ لا تنفُر من طبعه ومزاجه وسلوكه الفائض الانفعال. وكانت تلك اللوحة “نجوم فوق ضفَّة الرون”، ثانية الثلاثية.

                المـأْساتان

لبَّى مراسلاتِه صديقُه ﭘـول غوغان (1848 – 1903) فجاء إِلى آرْل مساءَ الأَحد في 23 تشرين الأَول 1888، وسكَن معه في البيت الأَصفر. فرِحَ به ڤـان غوخ، وراحا يتجوَّلان معًا في نواحي آرْل الغنية بالمناظر الناطقة جمالًا وسحرَ طبيعةٍ وهدوءَ ربيع. يتجوَّلان ويرسمان، يتسامران ويرسمان، يعانقان الليل ويرسمان، وڤِنْسِنْت مرتاحٌ إِلى وجود صديقه معه. ومن إِحدى تلك الجولات الليلية كانت لوحته “نجوم فوق ليل آرْل”، هي ثالثة الثلاثية.

كان يمكن أَن يَمضي شهرَا إِقامة غوغان مع صديقه ڤِنْسِنْت هانئَين، لولا خصام ناجم عن مزاجيهما المتضادَّين، راح يتكرَّر حتى بلغ نُفُوره ليلة الجمعة 23 كانون الأَول 1888 شجارًا حادًّا أَدَّى إِلى رفْع ڤِنْسِنْت موسى الحلاقة في وجه صديقه غوغان الذي فرَّ مذعورًا خارج البيت الأَصفر هربًا منه. لحظتَئِذٍ وقع ڤِنْسِنْت في حزن شديد، وأُصيب بفورةِ جنونٍ مما فعَل، فأَدار الموسى إِلى وجهه وبَتَرَ به أُذْنه اليُسرى. أَخذ يصرخ ذعرًا وأَلَمًا فهرع إِليه جيرانه وحملوه إِلى مستشفى أُوتيل ديو في المدينة.

          تانك المأْساتان (الخصام مع صديقه وبَتْرُ أُذْنه) غيَّرتا حياته الهانئة في آرْل. تدهورَت صحته فبات يتنقَّل مرارًا بين المستشفى والبيت الأَصفر، ويتوحَّش مزاجه حتى هجَّ منه جيرانه وطالبوا السلطات المحلية بمغاردته المدينة أَو بعزْله في مستشفى الأَمراض العصبية. وبعد مراسلة مكثَّفة مع شقيقه تِيُو، جاء هذا الأَخير حزينًا لمصير شقيقه التاعس، فاصطحبه صباحَ الأَربعاء 8 أَيار 1889 وأَودَعه مصحَّ سان ريمي (بروڤـانس، قرب مرسيليا).

          باقٍ في ذاكرة المدينة

هكذا انتهت، مأْساويًا، فترة 16شهرًا في آرْل، قضاها ڤـان غوخ في أَرجائها بين بساط ثلْجها وصحو لياليها ومكانه المفضل فيها: مقهى الرصيف قرب البيت الأَصفر.

لعلَّه، في إِحدى نوبات جنونه وهذَيانه، حين صوَّب المسدس إِلى صدره ليلة الأَحد 27 تموز 1890 وأَطلق منه رصاصةً قاتلة، كان يسترجع في ذاكرته المريضة لحظة الموسى وبَتْرِ أُذنه. ليلتَئذٍ غاب عن الوعي يومين انطفأَ بعدهما صباح الثلثاء 29 تموز قبل أَن يكمل ربيعه السابع والثلاثين (مولده الأَربعاء 30 آذار 1853).

وها هي اليوم مدينةُ آرْل محترِمَةٌ مرور ڤـان غوخ فيها، بدليل إِنشائها موقعًا سياحيًّا إِلكترونيًّا عالي التقنية بعنوان “على خطى ڤـان غوخ” مهَّدت له بعبارة “هو الغائب الأَبْدًا حاضر. أَمضى عندنا في آرْل 16 شهرًا. زوروا مواقعه على خطاه، واكتشفوا روائعه التي رسمها في مدينتنا”.https://www.arlestourisme.com/fr/sur-les-pas-de-van-gogh.html

          بين أَجمل ما يشاهده الزوار والسيَّاح من أَعمال ڤـان غوخ في هذا الموقع: ثلاثيَّتُه التي خلَّد بها مدينتَهم: “نجوم فوق ضفَّة الرون”،  “نجوم فوق ليل آرْل”، وخصوصًا رائعته الخالدة “مقهى الرَصيف في صحو ليلة آرْل”.

كلام الصُوَر

– لوحة “البيت الأَصفر”

– لوحة “نجوم فوق ضفَّة الرون”

– لوحة “نجوم فوق ليل آرل”

– لوحة “مقهى الرصيف في صحو ليلة آرل”

– وجهُه بريشته في لحظة يأْسٍ وكآبة

– شاهدة ضريحه (1853-1890)